الطفلة التي كنتها – ” طفولة بملامح البراءة: الزهرة الحميمدي

3 مايو 2022

الطفلة التي كنتها ” سلسلة رمضانية” تعدها الإعلامية أمينة بنونة .
ترصد السلسلة من خلال ضيوفها – كتابا وكاتبات أدباء وفاعلين في الحقل الثقافي – تجارب خاصة بمرحلة الطفولة والتي عادة ما تشكل بوادر توجهاتنا ومساراتنا المستقبلية
*********************
الكتابة عن الذات ، مخاض عسير ، والغوص في مكنونها يحتاج إلى الكثير من المعاناة، واستجداء الكلمة التي تنبع من القلب صادقة من غير تكلف. فالعودة إلى الماضي تنهيد وأسى ، وصرخة وجع صامت على ما مضى من العمر بحلوه ومره…ولعل أهم مرحلة نمر بها، هي مرحلة الطفولة التي عليها تنبني شخصية الإنسان ولها دور كبير في تكوينه نفسيا وفكريا وعقليا، فلولاها طفولتي ، ما كنت لأكون أنا ! ولا أدري لماذا كلما حاولت العودة إلى الطفلة التي كنتها ، والتي لا تزال بكل ملامح البراءة تسكن شغاف القلب والروح، أجدني حائرة من أين أبدأ …وأية نافذة أفتح، لأطل منها علي ، وأرى كيف كانت تلك الطفلة القابعة في ذاكرتي تخطو خطواتها الأولى نحو الحياة بكل آمالها وآلامها…
كل النوافذ مشرعة أمام الحرف النابض شوقا وحنينا إلى طفولة هادئة عشتها في كنف والدي رحمهما الله .
أمي الحبيبة التي كانت أجمل وأروع الأمهات…وابي الغالي ، الفنان الحكيم الرصين الذي علمني فن الحياة ! وكم كان عمرهما قصيرا …توفي أبي وأنا في السادسة عشرة من عمري ، ورحلت أمي بعده بسبع سنوات إلى دار البقاء .
كان بيتنا ب “المحلة ” على بعد أمتار فقط من دار الباشا الذي كانت تحيط بها حديقة كبيرة غناء ، من غير سور أو جدار يحجب عنا خضرة أشجارها ، وعطر ورودها ، وتغريد طيورها…مما كان يضفي بهاء وجمالا على المنطقة كلها ، خاصة في عطل الصيف ، حين كانت تغلق باب “مدرسة البنات” مدرستي التي كنت أدرس فيها، و أبواب المدارس كلها ، والثانوية المحمدية ، فيسود صمت الأماكن الخالدة، ويزداد الباب الكبير علوا وشموخا…
ولم يكن يحلو لنا اللعب إلا هناك ، تحت القوس الذي حتما لا يزال يحتفظ بضحكاتنا البريئة، وبلحظاتنا الجميلة التي كنا نلتف حول بعضنا لسرد القصص والحكايات، بعدما نتعب من القفز والجري والتسابق…وغير بعيد عن القوس أو “الباب الكبير ” كما كنا نسميه، كنا نتسابق بين الأشجارالباسقة ب” التفتيشية” أو ” صالا بانديرا” تلك المعلمة ذات الطابع المعماري الأندلسي ، التي كانت تتوسطها نافورة من المرمر، والتي رأيت نسخا عديدة منها في غرناطة وقرطبة وإشبيلية…
وكم كنت ، وأنا طفلة صغيرة أهتم بتلك التفاصيل الدقيقة لكل الأشياء التي كانت تحيط بي ، أو التي كنت أصادفها في طريقي ! كم كان يبهرني ذاك الرخام الأبيض ، وتلك الأشكال و الرسومات المنقوشة على الزليج، والزجاج الملون بالأحمر والأخضر والأزرق والأصفر… !كل تلك الألوان كانت تتحول عند المساء إلى حكايات وأحلام لم يكن يوقظني منها إلا صوت القطار القادم من بعيد الذي كان يمر بسرعة البرق ، ولا أدري إلى أين كانت وجهته عبر ذاك الخط الحديدي المستقيم الذي كان يفصل عالمنا الساحر الهادئ بالمحلة ، عن عوالم عديدة لم أكن لأقترب منها إلا برفقة أبي ، أو أمي أو أخي الأكبر رحمه الله ،الذي كان يأخذني لمشاهدة ” السيركو” الذي كان يحط رحاله من حين لآخر بفضاء”للا رقيةأو المرينة”التي كانت تغمرهاالمياه في فصل الشتاء بسبب الفيضانات…
كان أبي إذا مرضت أو مرض أحد إخوتي ، يأخذنا إلى الطبيب الإسباني ” هارنيت ”
رحمه الله ، الذي مازلت كلما سافرت إلى القصر الكبير نظرت جهة اليمين من مدخل المدينة، يتراءى لي وجهه الطيب بهدوءه وابتسامته السمحة …وأتذكر ذاك المستشفى أو المستوصف الذي كان قمة في النظافة والرونق، والممرضات اللواتي لم يغادرن المدينةبعد استقلال المغرب ،ونذرن حياتهن لخدمة الإنسانيةبتفان وإخلاص .
كما كنت أرافق أبي من حين لآخر إلى المعهد الموسيقي
– المركز الثقافي حاليا- لحضور حفلات للطرب الأندلسي خاصة في الأعياد الدينية والوطنية …
ولم يكن يمر فصل الربيع من غير نزهات على ضفة وادي اللوكوس الساحر ، محج الشعراء ، و ملتقى الكتاب والأدباء وعشاق الفن والطرب من أبناء مدينة القصر الكبير…
كما لم تكن تمر أيام الجمعة من غير أن يأخذنا أبي إلى ” سيدي عيسى بن قاسم” الذي كانت تتقاطر عليه الأسر والعوائل من كل مكان … وكم كان ذلك الفضاء الرحب يأسرني !! طبيعة خلابة ، وروابي القمح والسنابل ، وأشجار الزيتون المثقلة بذكريات الأجداد…
ومن أجمل ذكرياتي ، التي بقيت راسخة في القلب والوجدان ، تلك الصباحات التي كانت تأخذني أمي معها إلى مقبرة مولاي علي بوغالب ، لزيارة قبر أمها – جدتي – التي لم أرها قط في حياتي ، والتي كانت آية في الجمال كما يحكي عنها كل من عرفهامن أفراد العائلة والأقارب…توفيت حزنا على جدي الذي مات في الحرب الأهلية الإسبانية ودفن هناك بعيدا عن أرض الوطن ، ولم يصلها منه غير ساعته اليدوية وكلمة عزاء قصيرة جدا !!
كانت أمي مواضبة على زيارة قبر جدتي صيفا وشتاء ، فعلمتني معنى الحب و الوفاء لمن نحبهم والبقاء على عهدهم حتى بعد رحيلهم إلى دار البقاء …
كانت تلك الزيارات بالنسبة لي ، وأناطفلة صغيرة جولات صباحية أستمتع خلالها بذاك الصمت الروحاني المهيب الذي كنت أراه على وجوه الناس وهم يزورون أحبابهم الراقدين تحت التراب…وكم كانت تؤلمني دمعات أمي والفقيه يقرأ القرآن بصوت عال وبسرعة كي يبحث عن زبون آخر…
وقبل العيد بأيام ، كانت أمي تأخذني وأختي الأصغر مني لقياس الملابس التي كانت تخيطها لنا ” إستير Estére” اليهودية ، التي كانت تسكن بحي الديوان ، أو عند ابنة عمها بحي المرس التي جعلت من بيتها مدرسة أو كما كانت تسمى ” دار المعلمة ” التي كانت الفتيات والنساء يفدن إليها ليتعلمن الطرز والخياطة.
وفي كل عيد ، كنا نجتمع عند خالي , في بيت جدتي رحمها الله ، بالمدينة العتيقة ، التي عشقت دروبها الضيقة وأزقتها الملتوية ، وجدرانها الباردة ، ورائحة الورد والقرنفل التي تنبعث من صاباتها وأسطحها التي تعانق السماء في شموخ وكبرياء …
وكأن الأرواح الطيبة التي تسكنها ، سكنت قلب الطفلة التي كنتها , إلى اليوم !
فمهما كبرت ، وأينما رحلت ،
سيبقى القصر الكبير مهد صباي ، ومرتع طفولتي ،ساكنا في قلبي إلى الأبد..

اترك رد

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

الاخبار العاجلة

نستخدم ملفات الكوكيز لنسهل عليك استخدام موقعنا الإلكتروني ونكيف المحتوى والإعلانات وفقا لمتطلباتك واحتياجاتك الخاصة، لتوفير ميزات وسائل التواصل الاجتماعية ولتحليل حركة الزيارات لدينا...لمعرفة المزيد

موافق

اكتشاف المزيد من أخبار قصراوة العالم

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading