الطفلة التي كنتها ذة. رشيدة بنمسعود

25 أبريل 2022

الطفلة التي كنتها ” سلسلة رمضانية” تعدها الإعلامية أمينة بنونة .
ترصد السلسلة من خلال ضيوفها – كتابا وكاتبات أدباء وفاعلين في الحقل الثقافي – تجارب خاصة بمرحلة الطفولة والتي عادة ما تشكل بوادر توجهاتنا ومساراتنا المستقبلية
****************
الطفلة التي كنتها ” رشيدة” كان لها من اسمها بصمة الرشد، لست أدري من أين أبدأ الحكي حكاية تلك الطفلة الساكنة بين أضلعي… الطفولة نسيج خيوطه شخوص وأمكنة وحلم، شخوص وهي عديدة، تمثل بالنسبة لي القدوة والدليل، منها من رحل دون وداع إلى الأبدية، في الصدارة يأتي “أبي” السيد عبد القادر بنمسعود” وأمي “للا أمينة الفاسي”، عَطر الله قبرهما ونضر ثراهما وطهر ترابهما.
يسكن أبي نوع من الطبع الهادئ، يستعمل الصمت الناطق في تواصله، حب وحنان وارف، كان في أوقات فراغه يهوى المطالعة خاصة المجلات وكُتب السيرة الذاتية للأدباء والسياسيين، كان يحثنا بإصرار ونحن صغار على المواظبة ومتابعة الدراسة، مرددا على مسمعي الفتي “أحسن استثمار ينجزه الأبوان ينبغي أن ينصب وينفق على تعليم ودراسة الأبناء، ما زلت أذكر يوما عندما سألته ببراءة الأطفال والاستثمار في العقار يا أبي؟ فأجابني وضحكة سخية ومليحة ترتسم على محياه – يا بنتي- الشهادة أهم وأغلى من العقار مهما ثقل سعره.
أمي… سيدة التحنان، شلال يتدفق حبا، علمتني أحلى الأشياء، ولقنتني أجمل العوائد… كانت جملتها اللازمة ” أنت أنا ولا أريدك أن تكوني كما أرادوا لي أن أكون… أريدك أن تكوني بشكل مغاير… لن أعلمك الإمساك بالإبرة والحرير… في عيد ميلادك سأهديك كتابا، حروفه خيوط من نور يكون لك سندا وعونا في مواجهة متع ونوائب الحياة.
وأنا أحاور تلك الطفلة التي تلازمني، لا يمكن للحديث أن يستقيم وأن يكون له مذاق الحنين اللذيذ دون استحضار مدينة (القصر الكبير) مسقط الروح والحلم، القصر الذي أحببناه حبا في الوطن… القصر الذي تفتقت فيه براعم طفولتي في تفاعل خيميائي مع ماء وتراب نهر اللوكوس الذي كان يغرق في فصل الشتاء الأحياء والمنازل ويبلل أحذيتنا الاسبانية الصنع، التي كانت أمي تحرص على اقتنائها لنا من متجر لصاحبه الإسباني طوبيلي.
الطفولة زمن متحول، والمدينة/المكان زمن ثابت، المدينة جغرافية متنوعة أماكن أقمت في بعضها (الديوان – القطانين)، ومررت ببعضها (دار الفقيهة – مدرسة سيدي أبو احمد – استوديو بنونة…)، وسمعت عن بعضها الآخر حكايا غرائبية أرعبتني في طفولتي (صومعة البنات، حمام سيدي ميمون)، تتربص بي كلما اجتاحني الحنين وداهمتني أطياف النوستالجيا.

عن عَدوَتي القصر الكبير ” باب الواد/ الشريعة” ما تزال الطفلة التي تلازمني تتذكر حدثا كأنه وقع بالأمس، عندما حدث هجوم فتية من عَدْوة الشريعة على شباب باب الواد، حاملين العصي، يتوعدون ويرددون” احنا تسوَقنا العواد على اولاد باب الواد”، في تحد دفاعي يردد ابناء باب الواد” احنا تسوَقنا الشريحة على أولاد الشريعة”، يومها من شدة هلعي وخوفي مما قد يحدث من تنازع بين فتوة العدْوتين، وجدت نفسي، دون وعي مني أتواجد في فناء بيت ليس لي سابق معرفة بأهله، فقط لأن بابه كان مفتوحا، وهي عادة أغلب العائلات اليهودية القصراوية التي كانت تقطن بحي الديوان، فكانت المناسبة أن تولدت صداقة بيني وبين الصبية “حنه” التي صرت أناديها “بحنان” إلى أن رحلت بعيدا هي وباقي أفراد أسرتها خارج الوطن
حين تحاورني الطفلة التي تلازمني في مثل هذا الفصل الربيعي من السنة وفي مثل هذا الشهر (رمضان) /الفضيل لا بد أن أتذكر تجربة الصيام الأول، الذكرى التي تعيدني إلى الزمن الهارب، وتجعلني أستحضر في لحظة تذكر حيوات متجاورة ومتداخلة يتقاطع فيها الماضي في الحاضر والحاضر في الآتي من الزمن المقبل… إنها الوجه الآخر الذي لا يمكن التعبير عنه إلا بالبوح الحكواتي الذي يتدفق كشلال الحياة المنساب بصوت شهرزاد، إن تذكر شهور/الرمضانات الأولى يقترن عندي بتجربة الصيام لأول مرة… التذكر يغمرني بعذوبة الطفولة الطرية البريئة والنظيفة حيث تبرعم الاحلام بسعة السماء وزرقة البحر، بعيدا عن الأحقاد والضغينة والغيرة المدمرة والتنازع المتوحش وسلوكيات المحو والإقصاء التي نكتشف لاحقا شرورها ونعاني منها في سنوات النضج.
كان الصيام الأول كنطق الكلمة الأولى (ماما)، أذكر أن الفصل كان ربيعيا – كما هو اليوم – خرجت في جولة رفقة أحد أخوالي بتواطؤ مع والدتي – يرحمها الله-كانت وجهتنا إلى جنان جدي من أبي المتواجد بالبناتيين، ملتقى خرجات ونزهات العائلة، خاصة، في فصل الربيع، الغاية استهلاك الوقت واختبار قدرة الطفلة التي كنتها (سبع سنوات) على تحمل الجوع والعطش.
أركض.. أركض وأركض، أعد أشجار البرتقال والمندرين، أتلمس بعض وريقات أزهارها، أتأمل علُوها فيتملكني حلم بلون الخضرة، يتجاوز قامة الأشجار الباسقة المحملة بأزهار واعدة بموسم سخي، بين الفينة والأخرى، أبلل وجهي الطري والأطراف الصغيرة بماء نهر اللوكوس، يشتد بي العطش تغريني صفحات ماء النهر المتلألئة لكني أقاومها.
في البيت وقبل آذان المغرب بقليل استُقبِلت بحفاوة الأبطال، عطف وحنان أبوي، وإعجاب أمومي بتحقيق الرهان، الأم كانت تعدني لغذ مختلف “كوني أنا بشكل مغاير”، فكانت طقوس الاحتفال بالصيام الاول، تشعرني وانا طفلة بالولوج لعمر آخر، ما بين طقوس الماضي والحاضر تطغى ثقافة الانترنيت المذهلة والشاط والترفيه على طريقة “اعطيني صاكي” وتداعيات وباء كورونا والخوف الكبير من الحرب الدائرة بين روسيا واوكرانيا والأضرار التي يمكن أن تلحق بالشعوب المستضعفة.
يقترن شهر رمضان الكريم، بالنسبة للطفلة التي تسكن بين أضلعي، بعبق الرائحة/الروائح التي تغمر البيوت والأحياء وأيادي النسوة والفتيات، رائحة صباغة النيلة الزرقاء على الجدران… رائحة التوابل الشرقية العطرة التي يكثر استعمالها في الوجبات الخاصة برمضان المتراقصة على دقات المهراز… رائحة الحلويات الرمضانية (المخرقة، الشباكية، سلُو، المقروط وبقلاوة…الخ)… رائحة الحناء المنقوشة بزحرفة وعناية على أيدي العديد من النسوة والعذارى، تنضاف إلى هذه الروائح الزكية التي تنعش طاقة السعادة رائحة أزهار شجرة البرتقال والورد البلدي، ومن بين العادات الاندلسية الجميلة التي كانت أمي مغرمة بها، القيام في فصل الربيع باستخلاص رحيق الازهار والورد البلدي بواسطة آلة تعرف بالقطارة وهي إناء مكون من ثلاث قطع الأولى تخصص للماء والثانية للأزهار والثالثة بأنف ممتد إلى الامام يوضع في زجاجة فارغة نظيفة ومعطرة برائحة “العود”، في أول مرة تابعت مع والدتي عملية تصنيع “ماء الزهر” و “ماء الورد” على الطريقة التقليدية، بقيت مشدودة ومندهشة أعد قطرات استخلاص رحيق الأزهار، القطرة تلو الأخرى، أتأمل باستغراب وإعجاب عملية تحول الأزهار إلى عطر، ورغم شروحات أمي، لم تكتمل الصورة لدي بشكل مفصل ودقيق إلا بالاعتماد على
دروس الكيمياء التي لقننا إياها أستاذ فرنسي. وتختصر عمتي – رحمها الله-عطر هذه الروائح جميعها في جملة ممزوجة بعبارات من أقوال المتصوفة “لرمضان يا بنيتي رائحة الجنة والريحان”.
يشعرني الزمن الذي يباعد بيني وبين طفولتي أن الحلم لم يكتمل، ورغم التعب، الفرح، الانكسار والفوز، يظل بقعة الضوء الواعدة، الموعودة، والمنقذة من الرتابة والإحباط وانجلاء الأوهام وانحسار التجارب، الحلم رفيق العمر، أيقونة الحياة، حلم الطفولة لا يشيخ ولا يصدأ.
على حذو حلم/أحلام الطفولة السعيدة والبهية التي تأبى النسيان ولا تتكرر، ما زلت أمارس طقوس رمضان التي علمتني إياها أمي – رحمها الله-وأحلم أن تصير مدينتي/القصر الكبير، الركن الأول في العالم، جديرة بتاريخها الأسطوري .

اترك رد

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

الاخبار العاجلة

نستخدم ملفات الكوكيز لنسهل عليك استخدام موقعنا الإلكتروني ونكيف المحتوى والإعلانات وفقا لمتطلباتك واحتياجاتك الخاصة، لتوفير ميزات وسائل التواصل الاجتماعية ولتحليل حركة الزيارات لدينا...لمعرفة المزيد

موافق

اكتشاف المزيد من أخبار قصراوة العالم

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading