” الطفل الذي كنته ” و”الطفلة التي كنتها” سلسلة رمضانية تعدها الإعلامية أمينة بنونة .
ترصد السلسلة من خلال ضيوفها – كتابا وكاتبات أدباء وفاعلين في الحقل الثقافي – تجارب خاصة بمرحلة الطفولة والتي عادة ما تشكل بوادر توجهاتنا ومساراتنا المستقبلية
*********************
بعد رحلة طويلة عن مكان وزمان الملاحم والأحلام، باغتني حنين، خِلتُ أنني تخلصت من الوقوع في شباكه النفسية منذ سنين، وكلما توغلت في مسارب الزمن، ازداد إدراكي لأهمية فورة الرغبة في العودة إلى مراتع صباي، منفصلاً عن عالم شاسع لا حد له، في محاولة للتعبير عن عالم أصغر، تعلمت فيه أن الغنى في القناعة والخير في التضامن، والصبر مفتاح الفرج…
عشت مظاهر تلك السجايا في خمسينات القرن الماضي بما حفلتْ به من أحداث ووقائع، لا زال صداها يرنّ في الآذان، وهي في حاجة إلى مزيد من التمحيص وإمعان النظر لإجلاء جوانب ملامحها الخفية بلا رتوش ولا مساحيق.
في ذلك الخضم رحل الوالد إلى دار البقاء، ليعيش الطفل الذي كنته بقية مرحلة طفولته يتيماً. كان رحيلاً فارقاً، ورجة نفسية تحولت معهما حياة الطفل من حال إلى حال. إلا أن العيش بين جدّتيْن، ووجود الأقارب من حوله، صغاراً وكباراً، عوّضه عما شعر به من ضيق وحرمان، انطلاقاً من تلك الفجرية، حين أيقظه رنين النحيب وصدى ترديد مناقب الغالي الذي قضى.
ورغم تلك الفجوة الصاعقة، أتيحت للطفل الذي كنته، ولا زلت أحمل بعض صفاته وملامحه، فرصة متابعة الدراسة بالكُتّاب والمدرسة العمومية، وعاش حراً طليقاً كالعصفور، يرتع ويلعب على ضفاف النهر الخالد، في مدينة هادئة، آمنة، إلى حين، يتذوق ثمار بساتينها الغناء، ويلهو ويمرح في مساحاتها الخضراء، دون اعتراض على ذلك من أحد. وفي فترة لم تعرف التلفاز والحاسوب والهواتف الذكية، وجد الطفل في فضاءات “الحلقة”، وملاعب الكرة، والسينما امتداداً للمدرسة، يغادر إحداها ليرتاد الأخرى.
كانت مدينته المتاخمة للحدود بين منطقتين، تتفاعل مع مجريات ما فرضه الوضع من مواجهة وتضحية، حين بدأت كلمات غير مألوفة لديه، تدب في قاموس لغته المحلية إيذاناً بمرحلة جديدة، قادمة.
وكجُلِّ أقرانه، انشغل بما راج من أخبار عن الوطن والوطنيين، وانساق بحماس في احتفالات واستعراضات اهتزت لها أركان مدينته، وشارك في فرقة للكشفية برتبة “جُرْموز،ْ”، يردد بفخر، عند كل تنبيه، أن ” الجرموز دائماً مستعد”، بما يعنيه هذا الشعار من معاني خدمة الغير بانضباط ووعي ومسؤولية.
كانت عين الطفل ترصد الغرباء وأبناءهم وهم ينعمون في مساكنهم بحي “اسكرينيا”، ويوجهون نظرات الاستعلاء إلى الأطفال من بني جلدته، ووجد، هو وأقرانه وسيلتهم لرد الاعتبار، في العبث بحدائق الغرباء ومبارزة أطفالهم، وتعكير صفو بعض مناسباتهم.
التقطت الأذن ما كان يروج من أنباء حول صراعات بنكهة “السياسة- السلطة”، بين فرقاء تسيّدوا المشهد في المدينة. ولم يكن الطفل يدرك وجه الشبه بين ” السياسة- السلطة”، و”الجاذبية -المغناطيس”. وبينت الأيام، على العموم، أن الحصيلة كانت نتاج نضج سياسي باهت لدى الفرقاء، رغم وجود قامات فكرية كبيرة من بينهم.
استمتع الطفل الذي كنته برحلات عديدة، لا تنسى مع جدتيْه، منها تلك التي زار فيها طنجة الدولية لأول مرة. وقد شكلت، بالنسبة إليه، انتقالا إلى عالم يحيط به البحر من جانبيه، والبواخر الكبيرة، والسيارات المتنوعة والأضواء الزاهية في كل مكان، والمقاهي والمدارس العصرية وخليط من الألسن والسحنات…
وقادته رفيقته في طنجة في جولات تسكع طفولي حالم عبر دروب المدينة العتيقة ومرافقها، وإلى محطة القطار والحافلات والميناء. وعادت به الجدة إلى قصرهما الكبير دون أن تترك له فرصة تحية ملاك طائر، جعل أيامه في طنجة تظل راسخة في الوجدان.
لطالما كانت جدته لأبيه تُمنّيه بزيارة لمكان الأجداد، وهو ما تم، بالفعل، في أواخر الخمسينات، حين زار الولي الصالح، بضواحي بنسليمان، وتعرف على أبناء عمومته في قلب الشاوية، من بينهم فارس بملابس بيضاء، رحب به، وهو على صهوة جواده ويده على الزناد، على أهبة لخوض إحدى جولات “التبوريدة”. كما شعر وهو يتذوق حبات رُمّان تلك الربوع بأنه يعيش أحلى ما في الماضي والحاضر والمستقبل. وهاله المنظر الطبيعي الخلاب الذي يوجد به ضريح تقول عنه الأسطورة: (سيدي عمرو القدميري “مولْ العيْن السخونة يْجيوْ ليهْ فْرايْسْ ويمْشيوْ عْرايْسْ”).