“علاقة التنوير بالمراقبة”

23 مارس 2022

_ الخليل القدميري : 

يتضمن كتاب عنوانه ” المراقبة السائلة” حواراً بين زيجمونت باومان ودفيد ليون، ترجمه حجاج أبو جبر وقدمته هبة رءوف عزت. وهو كتاب في علم اجتماع الآلة وأثرها في الوعي بالذات، وفي توظيف المستجدات التكنولوجية لخدمة الأجندات السياسية التي تجور على الحريات وتنتهك الحدود الشخصية، وهو، كما تقول عنه الأستاذة هبة رءوف عزت، كتاب في حياتنا اليومية التي تغزوها المعلومات وتسلبنا كل ما عندنا من بيانات لتقوم بتوظيفها لمصلحة شبكات كبرى سياسية واقتصادية فتزيد من قدرتها على النفاذ إلى أدق خصوصياتنا.
فلا تنس وأنت تستعمل تكنولوجيات الاتصال الحديثة بأنك تقع تحت رحمة ما سماه سيغمونت باون ب” المراقبة السائلة” وهي ليست مجرد آلة رصد أو كاميرا في ركن المتجر أو أمام بناية سكنية أو مؤسسة حكومية، إنها التطبيق الذي تستخدمه للبحث عن طريقك فيدل جهات أخرى على مسارك وحركتك، وعين صغيرة مثبتة على جهاز الكومبيوتر تسجل محادثاتك مع الأصدقاء، وهي أجهزة رصد وتحليل لكل ما يخصك من تفاصيل يتم إدخالها بعفوية عند التسجيل لخدمة أو لموقع إلكتروني، لتتراكم هذه المعلومات ويتم تبادلها بين جهات السيادة ومؤسسات التسويق لتتحدث عنك بدل من أن تتحدث أنت عن نفسك، وهي منظومة متابعة وتعقب وتتبع وفرز وفحص ورصد ممنهج…واستهداف.
وقد تبهرنا الكفاءة والسرعة التي تتيحها التكنولوجيات الحديثة أو أنظمة التحكم، لكن قلما ننشغل بالآثار الاجتماعية والأخلاقية الكبرى التي ستترك أثرها في صيغة الاجتماع الإنساني ووعينا كأفراد بالذات، والخطأ والصواب والحقوق والعدل…وقد صارت المراقبة أكثر مرونة وحركية بعدما كانت تبدو صلبة وثابتة، إنها تتسرب الآن وتنتشر في نواح كثيرة قلما كانت تؤثر فيها وقلما ننتبه إلى وجودها في تفاصيل حياتنا وعلاقاتنا.
وقد صار “كل ما يتحرك” – المنتجات والمعلومات ورأس المال والبشر- موضوعاً للرقابة. وتعمل المراقبة ” عن بعد” في الزمان والمكان، فهي تتم على مسافة هائلة وتراكم المعلومات في سلاسل زمنية طويلة، وتنتشر في الدولة القومية وفيما وراءها في عالم العولمة. وتختلف أصناف المراقَبين. ظفمنهم من تجعله المراقبة أكثر أمناُ، ومنهم من تستخدم معلومات المراقبة في تصنيفه اجتماعياُ واقتصادياً وسياسياُ فيكون عرضة للنبذ والإقصاء، لا يحصل على الخدمة نفسها، أو تسهيلات الدفع، أو إمكانية القرض، أو الحصول على الفرص نفسها في الوظائف والتصعيد المهني، بل والمكانة الاجتماعية ذاتها.
وجاء في كلمة مترجم الكتاب أن التنوير كان يعني التحرر من الوصاية والجهل بارتباط مع سيادة العقل والارتقاء به إلى مرتبة السلطة العليا. لكن هذا العقل الفلسفي لم يكن وحيداً في رحلة التحرير، بل كان في صحبة الدولة الحديثة ومتناغماً مع رؤيتها الطامحة إلى إرساء النظام والحفاظ عليه. فجاءت مع التنوير فكرة الإله الرقيب، وأصبح الإنسان الحديث هو الرقيب الذي لابد أن يخضع العالم لسلطته ونظامه، ويحقق الانضباط والامتثال واستُعين بالعلم في تأسيس نظام مثالي. فكانت المراقبة تشير إلى سيطرة الإنسان وإلى إدارته للأمور مما يحقق النظام والانضباط والانسجام والكمال النهائي والوضوح التام.
ووفق هذه الرؤية كان السجن المثالي الكبير (البانوبتيكون) هو النموذج الأصيل لفكرة النظام والانضباط والوضوح التام، وكان برج المراقبة الذي يتوسط هذا السجن هو انعكاس لعلمنة فكرة الإله الرقيب. وكان هذا السجن خطة منهجية لها قواعدها وضوابطها الخاصة داخل أسوارها، وتمكن بذلك من إزاحة القيود الأخلاقية والواقع الأخلاقي والضمير الإنساني والعاطفة الإنسانية خارج أسواره.
وبذلك تبين أن “لعبة تحرير الإنسان كانت في الواقع لعبة السيطرة”، فتحول مشروع التنوير من حلم نبيل ينشر نور الحرية والعدل والتسامح والسلام والرخاء، إلى أداة تعزز طموحات الدولة الحديثة وآليات المراقبة الرامية إلى التحكم والانضباط.

اترك رد

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

الاخبار العاجلة

نستخدم ملفات الكوكيز لنسهل عليك استخدام موقعنا الإلكتروني ونكيف المحتوى والإعلانات وفقا لمتطلباتك واحتياجاتك الخاصة، لتوفير ميزات وسائل التواصل الاجتماعية ولتحليل حركة الزيارات لدينا...لمعرفة المزيد

موافق

اكتشاف المزيد من أخبار قصراوة العالم

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading