إشراقات ثقافية: راي الدكتور عبد اللطيف شهبون

16 أبريل 2023

إشراقات ثقافية
من تقديم أمينة بنونة
محمد الخمار الكنوني في الذاكرة
إعداد وتنسيق الأستاذ محمد العربي العسري.
المرحوم محمد الخمار الكنوني..
د. عبد اللطيف شهبون

لا ندعي في هذه العجالة القدرة على استجماع جميع العناصر الدالة على مجهود المرحوم في هذا المنحى، لذا سنكتفي – اعتمادا على التذكر – بإبراز بعض المؤشرات المقتضية ما دام الاستكثار متعذرا.
لقد برز اهتمام المرحوم بالتحقيق منذ إعداد أطروحته القيمة في موضوع: تحقيق كتاب الوافي في نظم القوافي للشريف الرندي، وذلك في سنة 1974.
وخلال السنة الجامعية 1979/1978 اختار (الخمار) لطلبة السلك الثالث بكلية آداب فاس (تخصص: أدب مغربي/ أندلسي) متنا شعريا ضخما للشاعر المغربي محمد بن إدريس العمراوي، إذ كانت استراتيجية التعامل مع هذا المتن تقوم على جانبين: جانب نظري، يشمل عرضا للاتجاهات المنهجية في تحقيق النصوص التراثية في الشرق والغرب. وجانب إجرائيا يسعى إلى الاستئناس بالضوابط المنهجية لمنهج التحقيق
بهدف توظيفيا إجرائيا على المتن الشعري للشاعر محمد بن إدريس العمراوي، وذلك في ضوء: التأصيل والقراءة والمكملات، وهي العناصر الأولية التي تقوم عليها عملية تحقيق المتون التراثية..
ثم برزت جهودات (الخمار) في هذا السبيل خلال السنوات الأخيرة من الثمانينات وذلك بإشرافه العلمي على مجموعة من الأطروحات الجامعية التي اتخذت
من ميدان التراث المغربي إطارا لعملها، خاصة في عصور الدولة العلوية.
وفي السنة الدراسية 89/88 أشرف محمد الخمار الكنوني على تأطير دورة تكوينية في المنهجية بتكليف من كلية آداب الرباط وتنسيق مع مؤسسة “كونراد أدناور” الألمانية، وكان الاسترفاد العلمي للفئة المستهدفة بالتأطير في شعبتي اللغة العربية والتاريخ
عظيما، سواء في الجلسات المغلقة أو المفتوحة وعلى امتداد أيام ..
والجدير بالإبراز أن جهود (الخمار) في ميدان تحقيق التراث المغربي لم تبرز خلال حلقات التدريس بالجامعة أو تأطير الدورات التكوينية أو الإشراف على الرسائل
الجامعية، بل برزت أيضا في مساهماته المتميزة في عضوية لجن مناقشة الأطروحات والرسائل، وفي الاستشارات العلمية للباحثين الذين كانوا يعدون رسائل جامعية تحت إشرافه سواء من الأساتذة لنيل دبلوم الدراسات العليا أو دكتوراه الدولة ..
وكان محمد الخيار مقتنعا بأن منهج تحقيق النصوص – فضلا عن كونه من جملة المناهج الصحيحة التي عليه الاعتماد عليها لتأصيل علم صحيح – فإن وظيفته لا غنىعنها لمقاربة النصوص في ضوء: البنيوية التكوينية أو الواقعية الاشتراكية أو المنهج الأسطوري أو التداولي أو غير ذلك، لأن كل المقاربات المنهجية التي تقام على نصوص غير محققة تحقيقا علميا هي مقاربات أو قراءات مبتورة ..
هذا المفهوم العلمي في التعامل مع النصوص كان يوازيه مفهوم آخر -ظل(الخمار) يناضل دونه- وهو رفضه لقراءة الإرث الشعري المغربي قديما أو حديثا في ضوء مقالات النقد الكلاسيكي الشرقي.
إن الأدب المغربي -حقا كما يقول محمد الخمار – جزء من الأدب العربي، ولكنه ليس صدى له بالضرورة، وذلك لاعتبارات إقليمية/ سوسيو ثقافية.
لقد دافع (الخمار) عن هذا الطرح في الحلقات التدريسية..في المناقشات العلمية للأطروحات..في الدراسات المقتضبة والممتعة التي كان يجربها مع أصفيائه -وماأقلهم !
ومسألة رفضه لقراءة الإرث الشعري المغربي بعيون مشرقة تقودنا إلى إبراز موقف آخر من مواقفه النقدية تجاه المتن الشعري المغربي، وهو دفاعه عن حق وجود
هذا المتن الذي يتهم ظلما أو جهلا بالدونية وبالقصور الفنى. الذين يقولون بهذا متسرعون في نظره، غير متمهلين ولا متسائلين لأن المسألة تتعلق في النهاية بتحديد مفهوم الانحطاط. الشعر المشرقي اتجه عموما وجهة مخالفة، وصدر عن بلاغة سماها المرحوم بلاغة الشر. هذه البلاغة يحددها ثالوث: السلطة + المرأة + الخمر. –
أما الشعر المغربي فقد اتجه وجهة أخرى، وصدر هو الآخر عن بلاغة نقيضة هي بلاغة الخير، المحددة في تالوث: الله + الرسول + الولي
إذن أين الانحاط ؟ وما مفهومه؟
وبديهي أن البلاغة الأولى -بلاغة الشر – تدعو الشاعر إلى استنفار أدوات فنية ومساحيق بلاغية (الاستعارة أساسا) في خطابه، في حين أن البلاغة الثانية (بلاغة الخير) لا تستوجب هذه المساحيق لأن جلال المخاطب يستدعي المكاشفة والجهر، وهذا سر تباين الأشكال واختلاف الدلالات.
نختم هذه الكلمة بالتأكيد على حقيقتين؛ أولاهما: أن محمد الخمار الكنوني قد ساهم مساهمة رفيعة المستوى في خلق تراكم نصوص أدبية مغربية محققة تحقيقا علميا، وهي في الأغلب لمجاهيل. ثانيها: إسهامه مع “الأساتذة المقتدرين بالجامعة المغربية في تأصيل منهج تحقيق النصوص التراثية المغربية .

وبعد، فلقد خفت الضياء.. لم يبق إلا الحزن والصمت .. لم تتبق إلا الذكريات والموجعات.
رحل محمد الخمار الكنوني بعدما سلك -في رحلته القصيرة- معبرا مليئا بالأضاليل مقفرا من الدفء زاخرا بالعيون المزيفات.. لقد عاش حقا في صمت
وحيدا.. في غربة روحه.. عاش وحيدا لأنه من طينة تتأبى أن تكون صنيعة مؤسسية، أو بوقا لعائلة حزبية..
صنع عبقريته وحيدا بعصاميته وموهبته الفردية.. رفض أن يعيش مسلوبا بغير اختيار.. مات في صمت لأنه قال لنا قبل رحيله: “أنا لا يمكن أن أقف على باب
أحد..”
إن أسلافنا اللامعين من أمثال محمد العربي الفاسي، صاحب “مرآة المحاسن” والحسن اليوسي صاحب المحاضرات ومحمد الحجوي الثعالبي، صاحب النفس
النفيس في ترجمة الوزير ابن إدريس، جميعهم وغيرهم أجمعوا أن المغاربة لا يهتمون -عموما- برجالاتهم، سواء في الحياة أو في الممات؟! فهل يستطيع الخلف مخالفة هذاالواقع؟.(ص169/170/171)
عن جريدة “الخضراء” عدد 45/ 15 أبريل 1991.

اترك رد

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

الاخبار العاجلة

نستخدم ملفات الكوكيز لنسهل عليك استخدام موقعنا الإلكتروني ونكيف المحتوى والإعلانات وفقا لمتطلباتك واحتياجاتك الخاصة، لتوفير ميزات وسائل التواصل الاجتماعية ولتحليل حركة الزيارات لدينا...لمعرفة المزيد

موافق

اكتشاف المزيد من أخبار قصراوة العالم

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading