بقلم : عبد القادر الغزاوي
هم نخبة من المثقفين أنجبتهم القراءة ، منهم من سطع نجمه الثقافي في سماء الفكر، ومنهم من تلألأ نوره في ظلمة الثقافة . انقطعوا عن التعليم النظامي ، هذا الانقطاع سواء كان بمحض إرادتهم أو بدافع خارج عن رغبتهم ، كان حافزا لهم في متابعة التحصيل الثقافي العصامي ، بعيدا عن حجرات الدراسة النظامية ، بالإرادة والعزيمة ، فتألقوا وذاع صيتهم في دنيا الأدب والفكر ، ( وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم ، وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون ) . سورة البقرة . الآية رقم 216 .
بدأوا يدرسون ويطالعون ويتعلمون ، اعتمادا على أنفسهم بأنفسهم ، حيث نذروا طوال حياتهم أرواحهم للقراءة والكتابة في مختلف المجالات ، قضوا الأيام والليالي في ممارسة حقهم الطبيعي في التعليم الذاتي ، والتحصيل الفكري والثقافي قراءة وحفظا ، بكل إرادة وعزيمة في عصامية نادرة ، وبكل جهد وكد ، كما يقول الشافعي :
بِقَدرِ الكدِّ تُكتَسَبُ المَعالـــــي ×× وَمَن طَلبَ العُلا سَهرَ اللَّيالـي
وَمَن رامَ العُلا مِن غَيرِ كَــــدٍ ×× أضاعَ العُمرَ في طَلَبِ المُحـالِ
تَرومُ العِزَّ ثم تَنامُ لَيـــــــــــلًا ×× يَغوصُ البحر من طلبِ اللآلي
رغم أنهم لم ينالوا حظهم الوافر من التعليم المدرسي ، تمسكوا بالعصامية في التثقيف الذاتي ، حيث أن عصاميتهم علمتهم وكونتهم تكوينا شاملا ومتنوعا ، فحققوا ما كانوا يصبون إليه ، ألا وهو التعليم بالقراءة والكتابة ، وحصلوا على ثقافة واسعة واطلاع كبير ، وأصبحوا على عروش قبيلة الحَرف والكلمة أمراء ، كل في مجال اختصاصه ، سواء كان منظوما أو منثورا ، بما خلفوه من إنتاج فكري رائد وإنتاج ثقافي غزير ، في شكل كتب وتأليف ودراسات ومقالات خالدة ، على صفحات المنابر الصحفية اليوميات والأسبوعيات والشهريات ، حيث كان لهم مخرجا من الانقطاع عن الدراسة النظامية ، فنقشوا أسماءهم بماء الذهب في سجلات عالم الفكر والمعرفة كأقلام في القمة ، وأمسوا من ألمع الكواكب الأدبية ، مما لم يتأتى لبعض خريجي المدارس والمعاهد والجامعات ، وهل يستوي الذين ينتجون والذين لا ينتجون ، فالإنتاج الفكري الجيد والخالد هو المعيار الأدبي لتكوين الإنسان ، سواء كان عصاميا أو متمدرسا .
إن العصامية من علم ربي ، يؤتيها لمن يشاء ، ويمنحها لمن يريد ، ممن تمسك بالاجتهاد المتواصل ، والعمل الدؤوب ، والاعتماد على نفسه ، والصبر والمثابرة ، والاستمرار في التعلم وطلب العلم ، طبقا لبرنامج يعده بنفسه لنفسه ، بدون كلل أو ملل ، وكما جاء في الحديث الشريف : ( اطلبوا العلم من المهد إلى اللحد ) . وأن صناعة الكتابة لا تتحقق بالاعتماد على الغير، وإنما لما يبديه المرء من استعداد ذاتي ، وطموح شخصي .
وأستحضر من هؤلاء الأدباء الذين برعوا في الفكر الجيد من النثر والشعر، ورفعوا راية المعرفة والفكر ، الآتية أسماؤهم :
مصطف صادق الرافعي . ( 1871 – 1932 م ) كاتب مصري . حاصل على الشهادة الابتدائية . أصيب بعاهة دائمة ألا وهي عاهة فقدان السمع . عمل في الصحافة والكتابة ، أصبح من عمالقة الأدب العربي . أصدر مجموعة من الكتب القيمة والمفيدة ، منها : كتاب تحت راية القرآن ، كتاب تاريخ آداب العربية ، كتاب إعجاز القرآن والبلاغة النبوية ، كتاب وحي القلم ، كتاب على السفود وديوان الرافعي . وغيرها من الكتب الذائعة الصيت .
عباس محمود العقاد . ( 1889- 1964 م ) . كاتب مصري . حاصل على الشهادة الابتدائية . أسس بالتعاون مع إبراهيم المازني وعبد الرحمان شكري ” مدرسة الديوان ” . اشتغل بوظائف كثيرة منها التلغراف ، السكك الحديدية ، والأوقاف ، عمل بمصنع للحرير في مدينة دمياط ، والتحق بعمل كتابي بمحافظة قنا ومحافظة الشرقية . عمل بالصحافة ، وشارك في إصدار جريدة الدستور ، كان يكتب وينشر بعدة مجلات ، منها مجلة الفصول ، وله عدة معارك أدبية مع مجموعة من الأدباء ، حصل على جائزة الدولة التقديرية في الأدب ، والدكتورة الفخرية من جامعة القاهرة ، إلا أنه رفضهما . أصدر مجموعة من الكتب القيمة والدواوين الشعرية ، منها العبقريات ( محمد ، عمر ، الصديق ، الإمام وخالد … ) ، كتاب الله ، كتاب ساعات بين الكتب ، كتاب بين الكتب والناس ، رواية سارة وكتاب ابن الرومي حياته من شعره . وغيرها .
محمد الرايسي . ( 1948- 1997 م ) . كاتب وباحث موسيقي مغربي. انقطع عن الدراسة خلال مرحلة التعليم الابتدائي . واتجه نحو التعليم الفني ، فدرس الموسيق بالمعهد الموسيقي بالرباط ، وبعد تخرجه حصوله على شهادة التخرج ، تقلد منصب رآسة مكتب الموسيقى والامتحانات بوزارة الشؤون الثقافية ،و زاول مهنة التدريس الموسيقي بمعاهد الموسيقى بالمدن التالية: فاس ، ومكناس ، الرباط ، القصر الكبير، وطنجة . وكان يتقلد مهمة التعليم الموسيقي ومسؤولية التسيير في وقت واحد. شارك في عدة ملتقيات وأنشطة ثقافية وموسيقية داخل المغرب وخارجه ، نشر مجموعة من الدراسات والمقالات بمختلف الصحف الوطنية والعربية ، كان عضوا في عدة جمعيات وأندية ثقافية وفنية .
محمد شكري ( 1935 – 2003 م ) . كاتب وروائي مغربي . المستوى الدراسي الشهادة الابتدائية . مارس مهنة التعليم . وهو لا يحتاج إلى تعريف ، فهو أعرف من كل معرف بين الأدباء والمثقفين ، وذائع الصيت في العالم العربي والعالم الغربي ، وصاحب مجموعة من الإنتاجات الأدبية والفكرية ، وهي تشهد له بذلك ، منها : الخبز الحافي والسوق الداخلي والخيمة ومجنون الورد وزمن الأخطاء وغيرها . وقد ترجمت بعض رواياته إلى لغات أجنبية .
حسن بيريش . كاتب وصحافي مغربي . المستوى الدراسي التعليم الابتدائي . غدا بعزمه وإرادته وعصاميته النادرة أديبا وكاتبا وصحفيا مقتدرا في شتى المجالات الفكرية والثقافية ، ناهيك عن إنتاج وإصدار مجموعة من الكتب ، ما يزيد عن عشرين كتابا ، والمقالات المتنوعة ، والموضوعات العديدة ، وإجراء الحوارات واللقاءات المختلفة الموضوعات ، التي نشرها في الصحف والمجلات المغربية والعربية ، وكذا بعض المواقع الإلكترونية ، بالإضافة إلى المشاركات الثقافية في مختلف المحافل الفكرية والملتقيات الثقافية ، إضافة إلى المجال الصحفي الذي برع فيه ، فحصل على عضوية النقابة الوطنية للصحافة المغربية ، وعضوية المجلس الإداري لاتحاد كتاب المغرب ، وأصبح له مكان بين محترفي الحرف وصانعي الكلمة بكل جدارة واستحقاق . ونقش إسمه في عالم كتابة البورتريهات ، فصار من أشهر كتابها .
عبد السلام التميمي . شاعر مغربي . التعليم الابتدائي . ينتمي إلى طبقة شعراء النثر أو قصيدة النثر، فجعلته يتحرر من القيود العروضية ، حيث برع في هذا الجنس الأدبي ، وأبدع فيه أيما إبداع ، بكل عفوية وتلقائية ، فتألق في سمائه ، وأجاد فيه ، فهو شاعر لما يكتب ، وشاعر بما يكتب ، وأصبح له حضور في ساحة الشعر المنثور . رغم وفرة قصائده المنشورة بمجموعة من الصحف الوطنية، وغير المنشورة ، والتي يربو عددها على المائتين قصيدة وخاطرة ، فهو لم يعمل على تجميعها ونشرها في ديوان أو دواوين ، حيث يبقى سبب ذلك من علمه وعلم ربة شعره وملهمته .
حنا مينه . ولد سنة 1936 م ، التعليم الابتدائي ، روائي سوري، امتهن في بداية حياته مهنة الحلاقة ، ومصلح دراجات ، وعاملا بالصيدلية ، وحمّالا في ميناء اللاذقية بسورية ، وبحارا على السفن والمراكب . عمل في الصحافة والأدب . ويعد من كبار كتاب الرواية العربية ، ساهم في تأسيس رابطة الكتاب السوريين ، واتحاد الكتاب العرب . له مجموعة من الروايات ذات الشهرة والانتشار ، منها : المصابيح الزرق ، الشراع والعاصفة ، نهاية رجل شجاع ، الثلج يأتي من النافذة ، الشمس في يوم غائم وامرأة تجهل أنها امرأة وغيرها .
من خلال قراءة حياة هؤلاء المفكرين ، وطريقة تعلمهم وتكوينهم ، وما أنتجوه على الصعيد الفكري والأدبي ، من كتابات خالدة ، وتآليف متنوعة ، والمكانة الفكرية التي وصلوا إليها ، كل في مجال اختصاصه ، تجلى لنا أن كل شيء يهون أمام الاعتماد على النفس ، والجد والاجتهاد ، والسعي إلى تحقيق المطالب والرغبات ، وتخطي الصعاب والعقبات ، دون اللجوء إلى التمني والمطالب والانتظار والاعتماد على الغير ، يقول أمير الشعراء أحمد شوقي :
وما نيل المطالب بالتمنـــــي ×× ولكن تِؤخذ الدنيا غلابـــا
وما استعصى على قوم منال ×× إذا الإقدام كان لهم ركابـا .
هؤلاء الذين ذكرتهم سالفا هم عينة من المفكرين والأدباء والشعراء والروائيين والصحفيين والموسيقيين ، الذين تم اختياري لهم من الذين أنجبتهم القراءة والكتابة والتعليم العصامي ، وهم كثر يضيق المقام بذكر أمثالهم من الذين بلغوا درجة عالية في الفكر والثقافة ، وأصبحوا نموذجا ونبراسا في التعليم العصامي ، والتحصيل الدراسي ، والإبداع الفكري . ونستخلص من ذلك أن المرء مسئول عن نفسه في التعليم والعمل بعصامية قوية ، والتثقيف الذاتي ، والتحصيل الشخصي ، بالجد والكد والاجتهاد ، والاعتماد على النفس ، والتسلح بالقراءة والكتابة ، وبالحبر والقلم وما يسطرون ، والتحلي بالإرادة والطموح والعزيمة ، فإنه ( على قدر العزم تأتي العزائم ) ، كما يقول الشاعر أبو الطيب المتنبي :
على قَدرِ أَهلِ العَزمِ تَأتي العَزائِمُ ×× وَتَأتي عَلى قَدرِ الكِرامِ المَكـــــارِمُ
وَتَعظُمُ في عَينِ الصَغيرِ صِغارُها ×× وَتَصغُرُ في عَينِ العَظيمِ العَظائِـــمُ
تلك هي العصامية الناجحة والمفيدة ، وللعصامية في أولادها درجات .