قراءات : مدلول كلمة “كتّاب” في تراثنا. يختلف مدلول هذه الكلمة في تراثنا عما نعنيه بها الآن.

16 فبراير 2022

الخليل القدميري :
مع نشأة الدولة الإسلامية، نشأت كلمة “كتّاب” لتدل على ميلاد فئة متميزة من المختصين بالتدبير الكتابي لشؤون الدولة. وقد أنشأ هؤلاء لغة ذات طابع مزدوج: لغة إدارية مع ما تقتضيه من تعبير عن أوامر الحاكم ومقاصده، ولكنها في ذات الوقت لغة فنية بالمعنى البلاغي العربي للكلمة. بمعنى أنها ليست لغة إدارية جافة، بل تؤلف بين مقتضيات التعبير الإداري وجمالية القول الفني.
وقد كان لهؤلاء الكتاب في الإدارة الإسلامية ( أي الديوان) درجات ومراتب؛ أدناها ” كاتب الخط” أي من يكتب بخطه الحسن مختلف الرسائل والوثائق الرسمية، وأعلاها “كاتب التدبير” وهو من يصوغ أوامر مالك السلطة صياغة تقتضي إلماماً ومعرفة حميمة بسياسة الحاكم، وبمقاصده العميقة، وبمستوى علاقاته بالذين يوجه إليهم رسائله وأوامره. ولم يكن الكاتب دائماً مجرد صائغ فني محترف لرغبات الحاكم وأوامره، بل قد يصل أحياناً إلى أن يتدخل في تكييفها، أو يقتطع له قسطاً من السلطة.
ومهما يكن، فإن الكتابة ظلت محكومة بأصلها، وهو “الخدمة”. فالكاتب خديم الخليفة أو السلطان. وقد قال الجاحظ إن “الكتابة لا يتقلدها إلا تابع، ولا يتولاها إلا من هو في معنى الخديم”. ويكشف قول الجاحظ عن حقيقة تاريخية وهي أن الكتابة لم تكن لتصل إلى تأسيس سلطة مستقلة ما دام صاحبها ظل في موقع الخديم، وحتى إذا وصل إلى سلطة ما، فهي مستظلة بسلطة الحاكم. أما سلطته العلمية فقد كان ينافس بها أصناف السلطات العلمية الأخرى، كسلطة الفقيه وهي أقواها.
لقد كان لفئة الكتّاب دور تحديثي في الثقافة العربية، فقد طعموها بعناصر مهمة من التراث الأجنبي، الفارسي واليوناني، وروجوا أدباً سياسياً فارسي المرجع، لتقديم نموذج في السياسة منافس لنموذج “سياسة الفقهاء”، أي السياسة وفقاً للشريعة.
وكانت الفئة الحاكمة عربية بمعنى الانتساب إلى أصل في القبائل العربية. وقد اعتبر الكتاب، وكانوا في الغالب موالي ( أي غير عرب) أن العرب الحكام جدد على السياسة، فلابد أن يتعلموا أصولها في الحكم وتقاليدها الملكية. وقد قدموا تعليمهم السياسي في شكل نصائح وحكم. وقد انتشر أدبهم السياسي ليتداوله الأدباء وحتى الفقهاء. ومع ذلك لم يصل الكتاب إلى صياغة تنظير متكامل ومتسق في السياسة يضاهي تنظير الفقهاء ( على الرغم من محاولات ابن المقفع). بل إن هؤلاء سيدمجون أدب الكتاب السياسي في فقههم السياسي، والمثال يأتينا من المنظر الكبير لمؤسسة الخلافة وهو الماوردي الذي اجتهد في إغناء تنظيره الديني للسياسة بقواعد من الأدب السياسي الذي وضعه الكتّاب.

من كتاب السلطة الثقافية والسلطة السياسية لعلي أومليل.

اترك رد

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

الاخبار العاجلة

نستخدم ملفات الكوكيز لنسهل عليك استخدام موقعنا الإلكتروني ونكيف المحتوى والإعلانات وفقا لمتطلباتك واحتياجاتك الخاصة، لتوفير ميزات وسائل التواصل الاجتماعية ولتحليل حركة الزيارات لدينا...لمعرفة المزيد

موافق

اكتشاف المزيد من أخبار قصراوة العالم

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading