الطفل الذي كنته: هذا الطفل الذي كنته د. حسن اليملاحي

13 أبريل 2022

الطفل الذي كنته ” سلسلة رمضانية” تعدها الإعلامية أمينة بنونة .
ترصد السلسلة من خلال ضيوفها – كتاب وكاتبات أدباء وفاعلين في الحقل الثقافي – تجارب خاصة بمرحلة الطفولة والتي عادة ما تشكل بوادر توجهاتنا ومساراتنا المستقبلية
_____ حلقات تعدها : أمينة بنونة

كنت أيها الطفل الذي كنته حلما صغيرا كبيرا ، صغيرا في نظر والديّ والجيران والسجلات والمحررات الرسمية وفي المدرسة، وكنت كبيرا في نظر أقراني لما يصدر عني من مغامرات وأسئلة وجودية لا أجد لها مبرار أو أجوبة ما. لقد ظلت هذه المتلازمة ترافقني إلى أن استوى عودي ذات سنة، وبدأت معه أثير حديث الأصدقاء والصديقات بفوضاي ومغامراتي التي كانت تتخطى حدود الحي حيث أقيم لتمتد إلى باقي الأحياء القريبة ( بلعباس، الديوان، القطانين) والنائية ( وادي اللكوس، المحلة، ودار الدخان ). جميع هذه الفضاءات انطبعت في ذاكرتي بعد أن مررت منها يوما مرور الكرام أو معاكسا بعض أطفالها الذين كانوا يقرؤون في عيوني ووجهي الطفولي غربتي عن المكان. والطريف في الأمر ، أن طيف طفولتي المتعقلة هذه هي عصاي أتوكأ عليها وأهش بها على تقدم العمر والإحساس بالزمن.
عند كل ظهيرة، كنت أجدني أتسلل- بخفي حنين – خارج البيت . أتسلل بعيدا عن أعين والدتي التي كانت تحرص أشد الحرص على تربيتي تربية صالحة محافظة – وقد أفلحت في ذلك – وعلى بقائي في الحي وعدم الابتعاد عن محيطاته التي كثيرا ما كانت تجلب لي الكثير من المتاعب مع أبناء الجيران وأمهاتهم بسبب فوضاي.
بسبب هذه الفوضى كاد مدير مدرسة سيدي أبو أحمد الأستاذ ( سين ) أن يخيط فمي بدباسة” الكرافوز ” اليديوية. لقد كاد أن يفعلها بعد أن استبدت به أعصابه وضاق من المشاكل التي كنت أحدثها في الصف وفي فترة الاستراحة، لكننا سرعان ما تصالحنا في ما بعد وعدنا إلى المربع الأول. فهمت ذلك من طريقة نظراته إليّ صباحا ومساء وأنا أدخل المدرسة متأبطا سنواتي ومحفظتي المهترئة . الأستاذ ( سين ) غفر الله لنا وله لم يكن يعلم أني كنت مولعا بالدوران في الشارع والأحياء والمدينة وأروقة المدرسة والسطوح، ومولع بالدوران حول الشمس !
لو علم بذلك من ذي قبل، لأخلى سبيلي وترك الدباسة جانبا.
هل كان من اللازم أن أخبره؟ لا أظن أن أستاذ أو مدير الستينيات كان على علم بميولات الأطفال إلى اللعب والدوران حول الشمس لاكتشاف أنفسهم ومن حولهم !
الآن ، وبعد أن مرت مياه كثيرة تحت الجسر، أجدني أتساءل: هل كنت ورقا من أوراق الأرشفة ، وبالتالي هل بمقدور دباسة أن تضع حدا لنشاط طفل يافع ونزق؟ الآن، وأنا أتذكر هذه الدباسة أضحك ثم أضحك، أضحك ملء فمي حينما أجدني أمسك بها لربط الأوراق معا.
لم أكن أعير الاهتمام لكل قوانين المدرسة والبيت والشارع.، هل أنا راشد لكي أكون ملتزما بها، لا أظن، ولذلك كان نصيبي من التعنيف أكبر من قبل والدتي وأخي الأكبر وأستاذي الذي كان يدرسني اللغة العربية وبعض أقراني من الكبار الذين كنت أهزمهم في لعبة حويطة أو صفرينة ، هؤلاء لا يستسيغون الهزيمة. ولذلك، فكلما ضاق بي المجال، أطلق ساقي للريح وأنا أتجه صوب الخردين المجاور لحينا.
إنه فرصة للتطهير و ملاذي الذي ألجأ إليه كلما شعرت بأني في أمس الحاجة إلى اللعب والتحرر من سلطة الأب و الأم والبيت والقوانين التي وضعها الكبار، إنها في كل الأحوال ظالمة ولا تنصف ولن تنصف طفلا صغيرا كالطفل الذي كنته.
في هذا الفضاء تحديدا ، كنت أستمتع بطفولتي من دون قيود، أحاورها، أكتشفها وأجلس إليها بعيدا بعيدا. أتأمل مسمك الغرانيت الكبير الذي يتوسط الخردين، أشرب ماء زلالا من فتحة نافورة مزخرفة تلفه من جهة الوسط. أتمدد على العشب مقلدا عصفورا صغيرا، أشرب دخان نبات اللبلاب ( اللواية ) اليابس الذي كنت أقطفه من جنبات الخردين ومن الجهة الخلفية لمزار سيدي أبو أحمد، أستمتع بها مقلدا الكبار وهم ينفثون دخانهم في الهواء ، بدخان الليفة أرسم لنفسي عالما آخر ، عالم البراءة ، أحرسه بعيدا عن أعين المتلصصين من الجيران، أقيم فيه طقوسي حتى آخر المساء لأعود – بعد ذلك – إلى بيتنا الصغير مثل أرنب صغير أصابه التعب من شدة اللعب.
لم أكن أكتفي بهذا فحسب ، بل أجدني – في أحيان كثيرة – أعاكس و أطارد العصافير التي تقيم في أعلى نخيل الخردين مستعينا في ذلك بما تيسر من حجر ، أختار الحجر لأني لا أملك بندقية صيد كما هو الحال بالنسبة للكبار الذين كانوا يتربصون بحمام الخردين الطائش والزائغ برصاصهم الغادر الذي كان يصيبهم في مقتل.أعلم أني كنت أفتقد إلى وعي بيئي يجنبني الوقوع في مثل هذه الجرائم النكراء . جرائم قتل العصافير وتدمير أعشاشها وإتلاف بيضها.لم أقرأ في الكتاب المدرسي بأن العصافير – هي الأخرى – لها الحق في الحياة والسلامة والانتقال بين فضاءات الأشجار والحدائق بكل حرية ومن دون قيود. كم كنت مذنبا أيها الطفل الذي كنته !
لما كنت صغيرا، كنت أتسلق الجدران و البيت وسطح البيت وأشجار الخردين ( بحثا عن نفسي التي ضاعت مني هناك ) ، وأركب الأحلام التي كانت تكبرني، وأنا إما أجلس عند عتبة أحاديث كبار الحي وهم ينتظرون آذان المغرب بشغف كبير أو يلعبون لعبة الكارطة ( لعبة الورق الشهيرة ) ، أو أجلس جنبا إلى جنب ضيوف أسرتي الذين كانوا يتقاطرون على البيت من جبال آل سريف. نعم كنت أتسلق الحديث والجدران وجدول الضرب والأشياء وحتى الأناشيد ومادة الشكل والإنشاء. نعم كنت ماهرا في التسلق مثل نسناس صغير .
من يصدق أن ذلك الحلم الذي كنته قد طوته الأيام والسنين وتحول إلى مجرد ذاكرة تسعفها العبارة ولا تسعفها الطفولة بعد أن ضاعت مني في غيابة الجب ؟
مازال حدث تعلقي بفضاء بيتنا الصغير – بما في ذلك النافذة الماثلة أمامي – يثيرني إلى حدود اليوم. لقد كانت بالفعل صديقة للطفل الذي كنته وصديقة لحياته الطفولية الحافلة بتفاصيل كانت تشبه رسومات أطفال، أما الآن، فلم تعد كذلك، بعد أنت ذبلت تلك النافذة. كنت أفهم – بأسف كبير – هذا وأنا أتأملها كلما توقفت في نفس الحي وأنا أنزل القصر الكبير قادما إليه من أسبانيا أوتطوان. المشكلة كل المشكلة، أن النافدة – خلال تلك السنوات – كانت تختلط عندي بنفسي.لم أدرك هذا، إلا بعد أن رشد الولد واهتدى إلى ما هو عليه الآن من حقيقة وعلم نفعنا الله به.
نافذة بيتنا هاته، كانت صغيرة مثل سني وجميلة وهي تطل على ذلك العالم الذي لم أكن أستوعبه لأنه كان يكبرني. لقد كانت بالنسبة لي، الوسيلة الوحيدة لاكتشاف الوجه الآخر للفرح والاستماع إلى أنشودة الحياة ، والتفرج على شريط أحلامي الشتوية الجميلة التي كنت أنسجها حلما بحلم وزمنا بزمن . كنت أحلم بدراجة نارية من نوع ” فلاندريا ” أقودها وبرفقتي صديقتي الزيلاشية ( س ) التي أحببتها بعد أن أصبحت تبادلني الابتسامة والإشاراة من باب بيت السيد (غ ) ، هذه الزيلاشية سلبت مني كل عقلي وعواطفي بإطلالتها البهية وابتسامتها الساحرة، ولذلك كثيرا ما أجدني أرابط عند باب بيتها طلبا لنظراتها وابتساماتها ، أرابط عند بابا بيتها كي أتملى بطلعتها. كان حلمي الصغير هذا شبيها بحياة الأشرطة المصورة وهي تمر سريعا سريعا .
الآن، وأنا أتذكر طفولتي هاته وأحلامي وما رافقها من أحداث ومفاجآت ومغامرات وخيبات وأفراح، أجدني أتساءل عن مصير تلك الطفولة وإمكانية استعادتها ماديا. كيف لي أن أقتفي طريقك أيها الطفل الذي كنته حتى تعود إليّ ( س ) الزيلاسية التي حرمتني منها لعنة الجغرافيا واستبداد المحيط الأطلسي بعد أن غرر بها ؟
من بين المشاهد التي ما تزال تحضرني وأنا أستدعي هذا الطفل الذي كنته ، مشهد ارتدائي للباس أوروبي – حمله لي أخي رحمه الله من أسبانيا ( أسبانيا التي سأعشقها في ما بعد ) – لقد كان مشهدا رائعا ومليئا بالحياة والتلقائية والبساطة التي كانت تسود ذلك الزمن. ارتدائي للباس أوروبي وأنا أتوقف عند يافطات أفلام سينما الطبيعية ( تياطرو العريان ). كنت أحلم وأتصرف كما لو كنت كبيرا كبيرا مثل معلم مدرستنا الحلوة ورجل الإطفاء الذي كنا نقرأ عنه في كتاب أحمد بوكماخ. نعم كنت أرتدي هذه البدلة الأوروبية وأتوجه إلى شارع الحسن الثاني، وبعد أن أنحرف يمينا، أجدني أمام التياطرو. مازال هذا التياطرو ماثلا أمامي ببنايته العجيبة وشاشته العملاقة . كم أتأسف عليه الآن بعد أن افتقدناه ، إنه لم يعد موجودا إلا في أحاديث الناس سرديات المدينة !
كنت مسكونا بشاشته العملاقة ( التياطرو ) وأنا أعجز ببراءة طفل صغير إلى تفكيك لغزها ، الشاشة كانت تستهوي نساء ورجال القصر الكبير من مختلف الأعمار فتراهم يقبلون عليها زُرافات ووُحدانًا.
ولكي أبدو كبيرا ، أجدني أستعطف أمي وأستدرجها بما أملكه من معجم بلاغي طفولية كي أحصل على ثمن تذكرة الدخول. كان ثمنها آنذاك أقل من ريال ( ريال زمان وبلغة الشمال ). أستعطفها، لأني كنت أحلم بالجلوس أمام تلك الشاشة العملاقة التي كانت تدهشني كي أشاهد أفلام الشيخ المختار أو لوتيتان أو غوريلا أو أفلام تشيكو، تدهشني أيضا وأنا إما في الطريق إلى المدرسة أو وأداعب سمك خردين الحي الذي يصول ويجول داخل نافورة ماء إسمنتية من تركة الأسبان. كنت أستعطف أمي حتى أستجيب لنداءات الممثل تيشكو بطل الأفلام الهندية مثلما أستجيب لنداءات شاشي كابور ودراميندرا وبوبي . هذه الأفلام كانت تقتلني مثلما كانت تقتل أصدقائي الصغار.
كان يحصل كل ذلك لما يقع نظري على لفظة فيلم اليوم التي كانت تكتب بخط عريض عند مدخل سينما العريان. حينما ألج السينما كنت أقصد مكاني في الدرجة الاقتصادية ( الخينينار ) ، أما الكبار فكانوا يفضلون الدرجة الأولى (بيريفرينسيا ) و الثانية ( بوتاكا )، أما غيرها، فقد كانت للعاشقين للسينما من البسطاء وأبناء السبيل. غير ما مرة كان يتعذر عليّ الحصول على ثمن التذكرة، فتجدني أتسلق شجرة من أشجار مقهى الوزاني المجاورة للسينما ، وأصوب جانبا من رأسي جهة اليسار. هكذا ،كنت أفلح في متابعة فيلم اليوم. كم كنت كبيرا أيها الطفل الذي كنته ! كنت أقوم بمثل هذه المغامرات وأخطط لها من نافذة بيتي وخيالي الكبير يسرح بي بعيدا بعيدا من دون قيود . كم تنقصني الآن تلك الشاشة العملاقة التي غزاها الإسمنت وتحولت إلى مجرد بناية أشبه بتيتانيك.
من نافذة البيت التي كان يتسلقها الطفل الذي كنته عند كل ظهيرة ، تعلمت قواعد النظر و الطرح والحساب والقسمة، من نافذة بيتي أدرك هذا الطفل مبكرا تواضع الناس وبساطة العيش، فتشبع بالقيم الجميلة لتلك المرحلة التي يستدعيها البعيدون عن القصر الكبير بأسى كبير، نعم نستدعيها – كلما التقينا في مقهى ما – ونحن نتحسر على الماضي المشرق للمدينة الأم وعلى ما آلت إليه .
من نافذة البيت أدرك هذا الطفل الذي كنته طول الناس وقصرهم وأفراحهم وعذاباتهم التي كانوا يحملونها معهم وهم يمشون على الأرض هونا، مثلما أدرك الآن أن طفولتنا جميلة ولا تعيشنا و نعيشها إلا مرة واحدة.
من نافذة بيتي أدرك هذا الطفل الذي كنته أيضا أن مدينتي شاعرة وناثرة بالرغم من بساطة شوارعها الفاتنة وعتاقة دروبها التاريخية ( الشريعة وباب الواد ) وبناياتها القديمة والحديثة التي يحرسها التنين الكبير ( نهر اللوكوس ) …

اترك رد

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

الاخبار العاجلة

نستخدم ملفات الكوكيز لنسهل عليك استخدام موقعنا الإلكتروني ونكيف المحتوى والإعلانات وفقا لمتطلباتك واحتياجاتك الخاصة، لتوفير ميزات وسائل التواصل الاجتماعية ولتحليل حركة الزيارات لدينا...لمعرفة المزيد

موافق

اكتشاف المزيد من أخبار قصراوة العالم

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading