الطفلة التي كنتها
إهداء لصديقات طفولتي
سلام لروحي من غيبتهما المنية، المرحومتين : الأستاذة الشاعرة الزهرة بوعلي و المهندسة الرقيقة أمل الشاوش.
تحية لمن فرقتني عنهن صروف الحياة.
ذة. سمية نخشى
” سيدنا رمضان ”
“الطفلة التي كنتها” سلسلة رمضانية تعدها الإعلامية أمينة بنونة .
ترصد السلسلة من خلال ضيوفها – كتاب وكاتبات أدباء وفاعلين في الحقل الثقافي – تجارب خاصة بمرحلة الطفولة والتي عادة ما تشكل بوادر توجهاتنا ومساراتنا المستقبلية
حلقات أعدتها : أمينة بنونة
كم وددت في طفولتي أن لا ينتهي الشهر الفضيل، و أن تتمدد أيامه المشمسة و لياليه المقمرة، كما ارتسمت في خيالي، أيا كان الفصل السنوي الذي يصادفه، شتاءا أو صيفا.
و كم ترقبت رؤية هلاله، و أنا على سطح المنزل مع جدتي التي كانت تستقبله بالزغاريد و تطلق عليه إسم ” سيدنا رمضان “على عادة أهل الريف و المنطقة الشرقية أيضا، و ذلك تعظيما منهم لشهر كريم يبدأ بإكرام أهل الدار و ينتهي بإكرام المحتاجين، و بين البدء و الختم تنسج خيوط الحكاية، حكاية طفلة تفتقت براعم وعيها برمضان من خلال أغنية جزائرية، أو دزايرية كما ينطقها الإخوة الجزائريون، سمعتها ذات يوم من الماضي البعيد، عندما كنت في زيارة لمدينة الناظور صحبة جدتي، تنبعث من اسطوانة صغيرة تدور حول نفسها في حالة شبه صوفية، تناهت لمسامعي منها بضع كلمات ترددت:
سيدي رمضان جانا
كيف السلطان
يحكم بحكامو
شحال من شابة كلاتو
و شحال من شاب غواه الشيطان
لا أعرف إسم صاحب الأغنية و لم أهتم لذلك، لكن كلماتها ترسخت في ذاكرتي منذ ذلك الحين، و من خلالها تكونت لدي بعد ذلك أسئلة عن صرامة أحكام “سيدنا رمضان ” و عن علاقته خاصة بالشباب و عن تأثير غواية الشيطان عليها.
لكن تلك الأسئلة الحارقة لم تفسد علي يوما إحساسي الجميل جدا بشهر، كنا نحن الصغار ننتظره على أحر من الجمر. فهو شهر حافل بإقامة الفرائض الدينية ، بالمأدبات و الولائم المعتبرة و بكل أنواع الأنشطة الترفيهية، ناهيك عن الاحتفالات بأيام صيامنا الأولى ، و أهم شيء أنه فرصة لإثبات الذات و اختبار قدرتها على التحمل، فكلما مانع الأهل صيامنا كنا ، نحن الأطفال، نزداد إصرارا على إتمام مدته الشرعية و ذلك إلى مغيب الشمس ، دون حاجة لخياطة و ترقيع أنصاف الأيام ، كحيلة اهتدت إليها الأمهات لإقناعنا بصيام نصف يوم رفقا بنا.
يومها ، جمعتني و صديقاتي في الحي ، في رمضان طقوس خاصة ، انغمسنا فيها تلقائيا و بحماسة جيل ترعرع على الحياة المشتركة بعيدا عن أي نزعة فردية خلفتها لنا تكنولوجيا بئيسة أفسدت علينا حياتنا، حرمتنا بهجة الدفء الإجتماعي و اقحمتنا في اغتراب وجودي.
فبعد الحصص الدراسية ، و قبل موعد الإفطار، كنت يوميا أقوم بزيارة صديقتي أمل ، و هي قريبتي بالمصاهرة ، في منزل أسرتها المقابل مباشرة لمنزلنا . في ركن من أركانه نتخذ لنا مجلسا ، يتوسد فيه رأسي حجرها الصغير ، لتعبث أصابع يدها بخصلات شعري ، و ما أحب ذلك إلى قلبي، و هي تحكي لي فصول الحكايات و الأحجيات التي كانت تحفظ ، و التي كنت مهووسة بسماع تفاصيلها. أما هي فكانت تتقن و تجيد روايتها بشكل غير عادي ، يجعلني أشخص ببصري لساعة حائطية عتيقة و بديعة الصنع ، كانت تزين جدارا مقابلا لنا ، فيشطح خيالي مع نبرات صوتها الرخيم ، لعوالم سحرية كانت تتراءى لي بين عقارب الساعة التي لم أدرك حينها أنها سيف على رقابنا و أنها عتاد زمن يمارس سلطته على ذواتنا ووجودنا، يبدد الماضي، يقهر الحاضر و يستعجل المستقبل.
بين ثنايا تلك الحكايات، كم تخيلت نفسي ” عايشة رمادة ” و هي النسخة المغربية للسندريلا، التي تنقذها الساحرة الطيبة من شر زوجة أبيها و تقدمها في أجمل حلة للأمير الوسيم الذي يختارها عروسا له، و كم خفق قلبي خوفا ووجلا على الأخوات السبع اللائي سافر أبوهن لأداء فريضة الحج و صرن هدفا لكل نصاب و محتالة، و كم تغنيت معها بأنشودة العنزة التي خدع الذئب صغارها ” ألمعزة المعزوزية”
و لا أبرح مكاني إلا على صوت مدفع البلدية المدوي إيذانا بموعد الإفطار، فأطلق ساقي للريح ، خوفا من غضب والدي، رحمه الله، الذي لم يتوانى لحظة عن فرض القواعد و الأعراف، فللمواعيد حرمتها.
عند باب منزلنا أجد المتسولة ، ذات الأنف المقطوع ، تحمل قدرا معلقا بحبل صغير ، تنتظر نصيبها من طعام الإفطار.
و الذي كنت أصر على تقديمه لها بنفسي، فكانت أمي تلبي رغبتي ضاحكة و هي تصفها ” بصاحبتي ” .
بالكاد أتناول طعام الإفطار مما تيسر من خيرات الشهر الكريم ، و أنتهي من حفظ بعض السور القرآنية امتثالا لأوامر والدي ، و مباشرة بعد خروجه لأداء صلاة التراويح في المسجد الأعظم ، تبدأ الأيدي الصغيرة لصديقاتي في طرق الباب ، تدعوني لسهرة ليلية في ساحة مولاي المهدي البهية و الأنيقة آنذاك و بالضبط بين أقواس مقهى غرناطة ( البنك الشعبي حاليا ) أو عند عتبة أحد بيوت حي كاشطرومان الهادىء ، الآمن و الجميل حينها، سهرة متنوعة برامجها الترفيهية و متعددة فقراتها الاستثنائية، التي كنا، نحن الصغيرات ، نبدع و نبرع في إخراجها بين تمثيل، رقص، إنشاد و لعب جماعي لا يتوقف : غميظة، شريطة ، اعطني ولادي ، سب سبوت، حيلي ….. واللائحة طويلة….
كنا نستمتع بوقتنا إلى ما بعد صلاة العشاء ، و نسعد بوصلة ” الطبال ” ضمن جولته المكوكية السريعة معلنا بها موعد عجن ” المخمارة” ، فنجري خلفه مرددات : طاب طاب طابة، عجنو المخمارة.
وكمجموعة متناغمة كنا نضحك ، نغني، نركض، نكاد نطير كالفراشات بألوان زاهية ، لا شيء يعكر صفاء ذهننا ، نقاء سريرتنا ،و صفو حياتنا ، لا أمر ينغص طمأنينة بالنا ، لا حسرة على ماض ، لا خوف على مستقبل و لا إحساس إلا بحاضر ممتع و جميل ،
بعدها تبدأ أصوات الأمهات اللائي انتهين من تجمعاتهن العائلية، و صلواتهن التي تقام داخل المنازل و ليس خارجها ، تنادي علينا لنعود لبيوتنا معلنات نهاية السهرة ، فنغادر الساحة مكرهات و نفترق على مضض و قد ضربنا لأنفسنا موعد لقاء قريب في الغد .
هكذا كانت تتوالى الأيام سريعة ، مزخرفة بالإثارة و موشاة بسحر زمن جميل إلى أن يظهر الهلال ثانية معلنا النهاية المؤقتة ” لسيدنا رمضان ” الذي نودعه بأداء فريضة زكاة الفطر لمن يستحقها ، و ما كان اسعدني بذلك الحدث ، فقد كنت شغوفة بعملية توزيع الزكاة ” الفطرة ” الذي يبدأ التحضير لها بإحضار المكيال ” السني ” الذي تأمرني والدتي معه بالإيفاء في الكيل ، مصداقا لقوله تعالى ” وأوفوا الكيل إذا كلتم… ” من سورة الإسراء ، حتى و إن لم يكن تجارة ، فهو حق الغير.
أكيل الفرض الشرعي من القمح ( كما جرت به العادة آنذاك ) بعدد أفراد الأسرة، مع إضافة قدر مهم كانت والدتي تحرص عليه دائما ، ثم أضع كيس القمح خلف باب الدار في انتظار اقتراب الفجر دون أن يغمض لي جفن ، لأغادر فراشي كمن تقلبت على الجمر عند أول قرع للباب .
و أبدأ تنفيذ المهمة الموكلة إلي ، و هي توزيع الزكاة (الفطرة )، إلى أن تنتهي الكمية قبل طلوع الشمس ، كل ذلك و أنا أتمعن في ملامح الوافدين ، كي لا يتحايل أحدهم و يحصل على نصيب مضاعف على حساب محتاج آخر .
عندما أنجز مسؤوليتي السنوية ، أغلق الباب ، في انتظار من يطرق ثانية لأخبره بأنها ” طلعت ” دون أن أفهم حينها معنى هذه الكلمة ، التي كانت تنتابني معها مشاعر متناقضة ، بين حزن على شهر أسطوري انقضى ، و فرح غامر بعيد سعيد أهل علينا ، بدأت اشم رائحة فطائره اللذيذة منبعثة من مطبخنا، كما و قد حصلت على هديته من ملابس جديدة اتلهف لارتدائها. و لا أنسى الجوارب البيضاء التي تتدلى من جوانبها الخارجية كرات صوفية تتشابك مع بعضها كلما ركضت أو أسرعت في المشي ، ما يثير ضحكنا ، انا و صديقاتي.
هذه هي الطفلة التي كنتها….
و أظنني ما زلتها…..
إن كانت الذاكرة اليقظة مكون من مكونات هوية تتراوح بين الثبات و التغير.