بقلم: عبد القادر أحمد بن قدور
من الشائع والرائج حديثا في كثير من الكتابات السياسية والقانونية وغيرها من الدراسات الاجتماعية، أن عهد كل إنسان بالشرائع والوثائق التي بلورت حقوقه الإنسانية وقننتها، وحددت أبعادها، كانت قد بدأت بفكر الثورة الفرنسية الدالة والهامة والتي بدأت أحداثها سنة 1789م، فخلال هذه الثورة وضع ((أمانول جوزيف سييس)) (1748-1836) وثيقة حقوق الإنسان، التي أقرتها ((الجمعية التأسيسية)) وأصدرتها ((كإعلان تاريخي))، ووثيقة اجتماعية وسياسية ثورية في 26 غشت 1789م وكانت المصادر الأساسية لفكر هذه الوثيقة هي: نظريات المفكر الفرنسي ((جان جاك روسو)) (1712-1778م).. وإعلان حقوق الاستقلال الأمريكي الصادر في 4 يوليوز سنة 1776م وهو الذي كتبه (توماس جيفر سون) (1743-1826م)…
هذا، وقد نصت الوثيقة الفرنسية المذكورة على حقوق الإنسان ((الطبيعية))، مثل حقه في ((الحرية))، وحقه في ((الأمن))، وعلى سيادة الشعب كمصدر للسلطات في المجتمع وعلى ((سيادة القانون كمظهر لإرادة الأمة))، وعلى ((المساواة بين جميع المواطنين)) أمام الشرائع والقوانين… الخ… الخ… وقد فعلت هذه الوثيقة فعل السحر في الحركات الإصلاحية والثورية عامة، سواء في أوروبا أو في العالم أجمع… منذ تلك الحقبة من التاريخ إلى أن جاء دور تدويلها، ودخلت مضامينها في ميثاق ((عصبة الأمم)) سنة 1920م ثم بعد ذلك في ميثاق الأمم المتحدة في 10 دجنبر سنة 1945م وأفردته دوليا آنذاك وسميت بوثيقة خاصة هي (الإعلان العالمي لحقوق الإنسان) الذي أقرته الأمم المتحدة آنذاك… لذلك كان هذا التاريخ شائعا لنشأة مواثيق حقوق الإنسان وهو تاريخ إذا تأملناه جيدا وجدناه ((التاريخ الأوربي)) لحقوق الإنسان !! إذ ليس فيه قليل أو كثير عن ((الفكر)) أو ((الشرائع)) التي عرفتها حضارات قديمة وكثيرة غير أوربية، عن حقوق الإنسان ! …
وفي فترات أخرى شهدنا عن ((الصحوة الإسلامية)) – وفي بحث أمتنا الإسلامية عن هويتها الحضارية المتميزة وفي ذاتها القومية الخاصة خلال تراثها الفكري والحضاري، وفي فكريتها الإسلامية على الخصوص لقد شهدنا كتابات هامة تبرز حديث الإسلام وسباقيته في تقنين ((لحقوق الإنسان))، وهذا ميدان خصب وأساسي، وهو لازال ينتظر الكثير من الجهود التي تمكننا كعرب ومسلمين أن نتسلح ضد الاستبداد والقهر والاستلاب من جهة كما نثري كل الفكر الإنساني بهذه القضية المحورية من جهة أخرى لتنصف حضارتنا الإسلامية والعربية وفكرنا الإسلامي وديننا الحنيف من جهة أخرى لأنه ميدان أساسي من ميادين البحث والاجتهاد ومن ضروريات الحياة الحديثة أكثر فأكثر…
لكن… يبدو أن الجهود الفكرية الإسلامية التي بذلت ولازالت تبذل في دراسة وبلورة ((حقوق)) الإنسان في الإسلام رغم أن تفضل إبراز الذات الإسلامية المتميزة في هذا المجال نجدها قد تبنت نفس المصطلح الذي وضعه الأوربيون لهذا المبحث أي مصطلح ((الحقوق)) رغم أننا نجد الإسلام وقد بلغ في الإيمان بالإنسان، وفي تقديس ((حقوقه))، حيث تجاوز بها مرتبة ((الحقوق)) عندما اعتبرها ((ضرورات))، ومن ثم أدخلها في إطار ((الواجبات))؟!
فالمأكل والملبس والمسكن.. والأمن.. والحرية في الفكر والإعتقاد والتعبير.. والعلم والتعليم.. والمشاركة في صياغة النظام العام للمجتمع والمراقبة والمحاسبة لأولياء الأمور… والثورة لتغيير نظم الضعف أو الجور والفسق والفساد… الخ.. كل هذه الأمور، هي في نظر الإسلام ليست فقط ((حقوقا)) للإنسان من حقه أن يطلبها ويسعى في سبيلها ويتمسك بالحصول عليها، ويحرم صده عن طلبها؛ وإنما هي ((ضرورات واجبة)) لهذا الإنسان.. بل إنها ((واجبات)) عليه أيضا. !!
إنها ليست مجرد ((حقوق)) من حق الفرد أو الجماعة أن يتنازل عنها أو عن بعضها.. وإنما هي ((ضرورات)) إنسانية – فردية كانت أو جماعية – ولا سبيل إلى ((حياة)) الإنسانية بدونها، حياة تستحق معنى ((الحياة)).. ومن ثم فإن الحفاظ عليها مجرد ((حق)) للإنسان بل هو ((واجب)) عليه كذلك !.. يأثم هو ذاته – فرد أو جماعة – إذا هو فرط فيه، وذلك فضلا عن الإثم الذي يلحق كل من يحول بين الإنسان وبين تحقيق هذه ((الضرورات)) !.. إنها ((ضرورات)) لابد من وجودها ومن تمتع الإنسان بها، وممارسته لها، لكي يتحقق له المعنى الحقيقي ((للحياة)). وإذا كان العدوان على ((الحياة)) من صاحبها – بالانتحار – أو من الآخرين – بالقتل – جريمة كاملة ومؤثمة، فكذلك العدوان على أي من ((الضرورات اللازمة لتحقيق جوهر هذه ((الحياة)).. بل إن الإسلام يبلغ في تقديس هذه ((الضرورات)) ((الإنسانية الواجبة)) إلى الحد الذي يراها الأساس الذي يستحيل قيام ((الدين)) بدون توفرها للإنسان.. فعليها يتوقف ((الإيمان)) ومن ثم ((التدين)) بالدين ! ففي شريعتنا: إن صحة الأبدان مقدمة على صحة الأديان.. لأن صحة الأبدان مناط للتكليف وموضوع للتدين والإيمان.. ومن هنا كانت إباحة ((الضرورات الإنسانية)) للمحظورات الدينية !..
وصلاح أمر ((الدين)) موقوف ومترتب على صلاح ((الدنيا)).. ويستحيل أن يصلح أمر ((الدين)) إلا إذا صلح أمر ((الدنيا)) لأنه إذا تمتع الإنسان بهذه ((الضرورات)) التي أوجبها الإسلام… والإمام الغزالي، المرحوم برحمة الله الواسعة العلامة والفقيه الكبير (1058-1111م) يعبر عن هذه الحقيقة الإسلامية فيقول: ((إن نظام الدين لا يحصل إلا بنظام الدنيا.. فنظام الدين، بالمعرفة والعبادة، لا يتوصل إليهما إلا بصحة البدن، وبقاء الحياة، وسلامة قدر الحاجات من الكسوة والمسكن والأقوات والأمن… فلا ينتظم الدين إلا بتحقيق الأمن على هذه المهمات الضرورية.. وإلا فمن كان جميع أوقاته مستغرقا بحراسة نفسه من سيوف الظلمة وطلب قوته من وجوه الغلبة، متى يتفرغ للعلم والعمل، وهما وسيلتان إلى سعادة الآخرة؟ ((إذن فإن نظام الدنيا أعني مقادير الحاجة شرط لنظام الدين))(1) هكذا أعلى الإسلام من قدر الإنسان، حتى لقد بلغ بما جعلته الحضارات الأخرى ((حقوقا)) لهذا الإنسان، مرتبة ((الضرورات الإنسانية – ((الواجبة))… ولم يقف بها – كما صنعت تلك الحضارات – عند مرتبة ((الحقوق)) !.. ونجد في وطننا قد ساهمت الحركات الحقوقية والاجتماعية شيئا ما في تحرير مفهوم الانتقال الديمقراطي من بعض حقائقه المغلقة على الزمن الانتخابي وإفرازاته السياسية… وفرضت كذلك عليه بالمقابل الانتباه إلى الشرط الاجتماعي والثقافي لعملية الانتقال بما تفرضه من إعادة صياغة المجال السياسي والاجتماعي بفكره ونخبه ومؤسساته وسياساته العمومية على أسس جديدة ثقافية واجتماعية أي ثقافة حقوق الإنسان والديمقراطية والعدالة الاجتماعية التي لابد منها للتنمية المستدامة لوطننا الغالي، لأنه لكي يتخذ مفهوم الحق معناه ينبغي أن يظهر الإنسان داخل هذا الكون كقيمة عليا ودالة، حتى ترتبط فكرة الحق به هو (كضرورات) ومعناه ينبغي أن يظهر الإنسان داخل الكون كقيمة عليا، حتى ترتبط فكرة الحق (التي هي من الضرورات) به هو، وحتى يغدو وحده محط ذلك الحق، وهذا ما يوجب الاعتراف بأن الحق (الضروري) ليس إلا وجوب احترام كل فرد فرد ككيان إنساني، لأن الحق بهذا المعنى (الضروري) هو ما يحد من حرية كل واحد، حيث تبدأ حرية الآخرين كما هي ممكنة طبقا لقانون كوني. ويمكن أن نلخص هذا المعنى في القاعدة الكانطية ((إفعل بحيث تعامل الإنسانية جمعاء في شخصك وفي شخص الآخرين كغاية لا كوسيلة)) فالحق ليس إلا احترام كل فرد ومعاملته كماهية حرة (ومنحه حقوقه الكاملة التي هي من الضروريات في الإسلام الحنيف منذ قرون وقرون…
ولقد (ساهمت كل الشعوب والأمم عبر مر الزمان في بناء فكرة حقوق الإنسان، ودافعت عن الكرامة البشرية ضد الطغيان والاستبداد والعبودية، من خلال صراعات مريرة وثورات متواصلة وأحداث كبرى.
ومع اتساع رقعة التجمعات البشرية ازداد النضال من أجل حقوق الإنسان والكفاح لاستخلاص الحرية والمساواة والعدل والسلام.
ولذلك يمكن القول إن تنمية حقوق الإنسان لها تاريخ طويل تنغرس جذورها في كل الحضارات الإنسانية والشرائع السماوية)(2).
ولابد من ذكر هذا، ومبدأ العدالة مبدأ إنساني خالد بخلود البشرية يشهد به الضمير في أعماقه ويهفو إليه دائما، وهو يميز العدل من الظلم بإلهام ذاتي ولذلك فقد غدا مبدأ العدالة سمة مبنية من سمات القانون الطبيعي ومعلما من معالمه البارزة، ومن ما قاله الفيلسوف… أرسطو طاليس: (إن الحق والعدل موجودان طبيعيا وإن الدولة نظام طبيعي ووظيفتها إيجاد التوافق بينهما.)(3)
– القصر الكبير في يوم 24/02/2022