محمد أكرم الغرباوي كاتب و مخرج مسرحي
لعبور ممر السكة الحديدي رهبة وإنبهار ، كان للقطار الخشبي الأخضر المزدحم كل مرة ولصوته القوي زلزلة وأثر طويل لكل عابر ومشاهد له ،
كمقطع من مشهد سينمائي هو ، صوت طنين ناقوس الجرس ، و مستخدم المحطة ذي الزي المخزني الشبه عسكري ، الواقف أمام عجلة مرتبطة بحبل صعود و نزول الحاجز الخشبي الأحمر قصد منع المارة من المرور قبل وصول القطار . الباب الجانبي الصغير مخصص للحالات الطارئة ، و بعض بطولات طيش الشباب في محاولاتهم للمرور السريع من تحت الحاجز الخشبي كان تثير حنقة الرجل المستخدم ،
هذا الحنق الذي يقابل بنهر او ضربة سوط من المرحوم محمد الفضلي ( المعروف بمودة عند أهل القصر الكبير ) . هو رجل المحطة ، صديق القطار ، شبح لصوص المحطة ، تعددت صفاته و المهمة واحدة . سلامة الناس ، صفارته وتحذيراته تسمع من أمكنة مختلفة طوال النهار ، ( رجع اللور، راه ريح الماشينة كتجر ) ارجع للوراء رياح القطار قد تجدبك نحوها . هكذا يكرر الرسالة و بيده أو تحت إبطه السوط التي تخيف كل لص أو متسلل أثيم . هكذا رحمه الله عاش أمينا نصوحا خدوما للناس .
كانت محطة القطار نقطة ضوء و تأمل و مكان إجتماع أيضا و حديث الشيوخ فوق كراسيها الإسمنتية على طول السكة . وأحيانا للعب للضامة ، وقوف نسوة وشيوخ عجزة في انتظار اللاشيء . في مشاهدة يومية لكل راحل وعائد . في إنتظار من قد يأتي يوما أو من لايعود …
يمر القطار بعد توقف وعناق الأحباب فترفع الحواجز إعلانا ببداية جديدة للحياة بين ضفتي المرينة و المدينة .
كان التسلل بين زحام المارة ودخول المرينة شبيه بدخول متاهات مبهرة . وكذا للبحث عن حظ جديدة في رحلة إكتشاف عوالم الدوائر أو الحلقات . ( جمع حلقة بمفهومها التراثي الشعبي ) تناسلت أسماء كبار شيوخ الحلقة بالقصر الكبير عبر تاريخه المجيد و تعددت و تفاخرت و تعاظمت بحسب قدراتهم على الإمتاع و المآنسة و التسلية و الإفاذة . و الفرجة المشتهاة . لا أذكرهم جميعا ، لكن بعض الأسماء لصيقة الذاكرة و إستمرار تداولها . إنهم أشهر شيوخ الكلام يومها رحمهم الله حلقة قزدابو أو قزضابو ، ولد حليمة العويرة ، بركيدم … إلى جانب العديد من رواة الأثر وحكايا عنترة وعبلة ، سيف ذو اليزان ، ألف ليلة وليلة و مروضي القردة . والموسيقيون و السحرة … المرينة كانت مسرحا كبيرا مشرعا مفتوحا لكل الطبقات الإجتماعية البسيطة، و مسكنا وفضاء رحبا لكل الشيوخ و العجزة في بحثهم عن فضاء يحارب عزلتهم ووحدتهم ، كانت درسا انثربولوجيا و سوسيولوجيا في موضوعات الأثر الحكائي و الفرجات التواصلية المفتوحة . إلى جانب فضاءات أخرى كانت مغرية لإستعراض العضلات و القوة الجسمية . لازلت أسأل كيف صدق الأطفال و الشباب يومها أن نزالا حقيقيا عنيفا ومدميا كان من أقوى الدفوعات للفوز بلقب علي كلاي الحلقة ؟!! في مقابل البسيطات و الدراهم التي يستفيذ منها العجوز مالك القفازات وصورة محمد علي الأسطورة . والذي يهرب أحينا إذا ما إشتد عليه أمر فك النزال .
هي نفسها المرينة التي علمت فنون الضرب مكنت العديد من فن مراقبة مكان إختفاء السوطة في لعبة الكارطة . و مكان شد الخيط دون إنفالته ، و الخوف و التأمل في جماجم الحيوانات و الثعابين و الحشرات المحنطة عند رجل يدعي شفاء كل شيء إلا سعلته التي تجحظ عيناه .
رحلة إكتشاف هذه العوالم كانت كعادتها تنتهي لدينا بهروب جماعي أو بعد نقرة على رؤوسنا الصغيرة من أحد شبان أو نساء دروب حينا مع كلمة تحذير بإخبار أسرنا .
الوقوف في الحلقة ، و الإستماع لبعض المحضور فيها . كان بمثابة تحدي لطفولتنا و الحاجز الخشبي و مودة العظيم صاحب البنية الجسدية الكبيرة . وكذا إكتشاف عوالم ظلت ترافقنا . لتعيدنا لمشتركنا الإنساني رغم كل سفر و بعد أو تبقينا هنا في مدينة نعشق بساطة تاريخها و حرقة تعثر مستقبلها .
محمد أكرم الغرباوي
كاتب و مخرج مسرح