مقام البوح 5 المرينة : فرجات منسي

6 أغسطس 2023

محمد أكرم الغرباوي كاتب و مخرج مسرحي

لعبور ممر السكة الحديدي رهبة وإنبهار ، كان للقطار الخشبي الأخضر المزدحم كل مرة ولصوته القوي زلزلة وأثر طويل لكل عابر ومشاهد له ،
كمقطع من مشهد سينمائي هو ، صوت طنين ناقوس الجرس ، و مستخدم المحطة ذي الزي المخزني الشبه عسكري ، الواقف أمام عجلة مرتبطة بحبل صعود و نزول الحاجز الخشبي الأحمر قصد منع المارة من المرور قبل وصول القطار . الباب الجانبي الصغير مخصص للحالات الطارئة ، و بعض بطولات طيش الشباب في محاولاتهم للمرور السريع من تحت الحاجز الخشبي كان تثير حنقة الرجل المستخدم ،
هذا الحنق الذي يقابل بنهر او ضربة سوط من المرحوم محمد الفضلي ( المعروف بمودة عند أهل القصر الكبير ) . هو رجل المحطة ، صديق القطار ، شبح لصوص المحطة ، تعددت صفاته و المهمة واحدة . سلامة الناس ، صفارته وتحذيراته تسمع من أمكنة مختلفة طوال النهار ، ( رجع اللور، راه ريح الماشينة كتجر ) ارجع للوراء رياح القطار قد تجدبك نحوها . هكذا يكرر الرسالة و بيده أو تحت إبطه السوط التي تخيف كل لص أو متسلل أثيم . هكذا رحمه الله عاش أمينا نصوحا خدوما للناس .
كانت محطة القطار نقطة ضوء و تأمل و مكان إجتماع أيضا و حديث الشيوخ فوق كراسيها الإسمنتية على طول السكة . وأحيانا للعب للضامة ، وقوف نسوة وشيوخ عجزة في انتظار اللاشيء . في مشاهدة يومية لكل راحل وعائد . في إنتظار من قد يأتي يوما أو من لايعود …
يمر القطار بعد توقف وعناق الأحباب فترفع الحواجز إعلانا ببداية جديدة للحياة بين ضفتي المرينة و المدينة .


كان التسلل بين زحام المارة ودخول المرينة شبيه بدخول متاهات مبهرة . وكذا للبحث عن حظ جديدة في رحلة إكتشاف عوالم الدوائر أو الحلقات . ( جمع حلقة بمفهومها التراثي الشعبي ) تناسلت أسماء كبار شيوخ الحلقة بالقصر الكبير عبر تاريخه المجيد و تعددت و تفاخرت و تعاظمت بحسب قدراتهم على الإمتاع و المآنسة و التسلية و الإفاذة . و الفرجة المشتهاة . لا أذكرهم جميعا ، لكن بعض الأسماء لصيقة الذاكرة و إستمرار تداولها . إنهم أشهر شيوخ الكلام يومها رحمهم الله حلقة قزدابو أو قزضابو ، ولد حليمة العويرة ، بركيدم … إلى جانب العديد من رواة الأثر وحكايا عنترة وعبلة ، سيف ذو اليزان ، ألف ليلة وليلة و مروضي القردة . والموسيقيون و السحرة … المرينة كانت مسرحا كبيرا مشرعا مفتوحا لكل الطبقات الإجتماعية البسيطة، و مسكنا وفضاء رحبا لكل الشيوخ و العجزة في بحثهم عن فضاء يحارب عزلتهم ووحدتهم ، كانت درسا انثربولوجيا و سوسيولوجيا في موضوعات الأثر الحكائي و الفرجات التواصلية المفتوحة . إلى جانب فضاءات أخرى كانت مغرية لإستعراض العضلات و القوة الجسمية . لازلت أسأل كيف صدق الأطفال و الشباب يومها أن نزالا حقيقيا عنيفا ومدميا كان من أقوى الدفوعات للفوز بلقب علي كلاي الحلقة ؟!! في مقابل البسيطات و الدراهم التي يستفيذ منها العجوز مالك القفازات وصورة محمد علي الأسطورة . والذي يهرب أحينا إذا ما إشتد عليه أمر فك النزال .
هي نفسها المرينة التي علمت فنون الضرب مكنت العديد من فن مراقبة مكان إختفاء السوطة في لعبة الكارطة . و مكان شد الخيط دون إنفالته ، و الخوف و التأمل في جماجم الحيوانات و الثعابين و الحشرات المحنطة عند رجل يدعي شفاء كل شيء إلا سعلته التي تجحظ عيناه .
رحلة إكتشاف هذه العوالم كانت كعادتها تنتهي لدينا بهروب جماعي أو بعد نقرة على رؤوسنا الصغيرة من أحد شبان أو نساء دروب حينا مع كلمة تحذير بإخبار أسرنا .
الوقوف في الحلقة ، و الإستماع لبعض المحضور فيها . كان بمثابة تحدي لطفولتنا و الحاجز الخشبي و مودة العظيم صاحب البنية الجسدية الكبيرة . وكذا إكتشاف عوالم ظلت ترافقنا . لتعيدنا لمشتركنا الإنساني رغم كل سفر و بعد أو تبقينا هنا في مدينة نعشق بساطة تاريخها و حرقة تعثر مستقبلها .
محمد أكرم الغرباوي
كاتب و مخرج مسرح

اترك رد

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

الاخبار العاجلة

نستخدم ملفات الكوكيز لنسهل عليك استخدام موقعنا الإلكتروني ونكيف المحتوى والإعلانات وفقا لمتطلباتك واحتياجاتك الخاصة، لتوفير ميزات وسائل التواصل الاجتماعية ولتحليل حركة الزيارات لدينا...لمعرفة المزيد

موافق

اكتشاف المزيد من أخبار قصراوة العالم

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading