Deprecated: Automatic conversion of false to array is deprecated in /homepages/4/d885985160/htdocs/ksar.es/wp-content/themes/amnews/includes/fonts.php on line 616

السعادة…. يوم سقطت سهوا.

7 أغسطس 2022

ذة : سمية نخشى

كانت حصة استثنائية تلك التي كتبت الأستاذة عنوان الدرس فيها عريضا أعلى السبورة الخشبية السوداء بالطباشير الأبيض ، و عملت و بعناية كبيرة على تجميله بزخرفة و بخطوط حاولت أن تتوفق في رسمها رغم إمكانياتها الفنية الضعيفة..
بمجرد قراءة العنوان :” السعادة ” ، تعالت همهمة بعض التلاميذ ، ووشوشة البعض الآخر ، كما تناثرت الابتسامات هنا و هناك ، تحمل الكثير من المكر بين مستفسر، مستهزىء و متحسر….و تناهت إلى مسامع الأستاذة أسئلة تلقائية ، لكنها مستفزة من قبيل : أين السعادة ؟ من يدلنا عليها ؟
أ هي حقيقة أم مجرد وهم تحاولون معشر الأساتذة تخدير عقولنا به؟ هل من سعادة مع الفقر؟ هل من سعادة مع المرض؟ هل من سعادة مع مقرراتكم الطويلة، العريضة و المبهمة كما لو كانت برديات فرعونية أو طلاسم من زمن غابر؟
استجمعت الأستاذة قواها العقلية و البدنية ، و هي تتحرك بين الصفوف بهمة عالية ، و ذلك قبل أن تستعيد بشكل كامل سيطرتها المعهودة على الفصل الدراسي ، فعم الهدوء و الصمت الخارجيين و لكن صخب و ضجيج الافكار الداخلية الثائرة كان مسموعا لديها بشكل واضح.
و كأي درس فلسفي ، كان الاستهلال بالانفتاح على الأبعاد الإشكالية للموضوع من خلال طرح تساؤلات تستهدف بدءا مفهوم السعادة، امكانيتها، طبيعتها ثم شروطها اذا كانت ممكنة.
كالعادة، انخرط التلاميذ في صياغة الإشكالات، و في التماس الإجابة عنها قبل الوقوف عند آراء المفكرين و الفلاسفة .
و على غير العادة تمردت الأستاذة على الدرس الأكاديمي، إذ أوكلت للتلاميذ مهمة توجيهه أنى هداهم تفكيرهم ، و حيث أغواهم قلقهم المعرفي و الوجودي دون التزام بالخطوات المسطرة سلفا في الكتاب المدرسي . مكنتهم من الدفة ، جعلتهم يرفعون الشراع لتمخر سفينتهم عباب مغامرة فكرية قد تصحح تمثلاتهم الخاطئة و قد تؤسس لتصورات رشيدة بعيدا عن بادىء الرأي، عن سلطة المعارف الجاهزة و عن أفكار سوداوية تهدم و لا تبني ، تشكك ولا تشيد.
استجاب التلاميذ لدعوتها ، شحذوا همتهم و بدأوا رحلة الاستكشاف تلك في أغوار النفس البشرية ، و استرسلوا في محاولة تعريف السعادة ، فهذا يقول :” السعادة زوجة جميلة ” ليضحك مجموع القسم، و ذاك يعترض عليه قائلا :” السعادة هي المال ” فتؤيده فئة كبيرة ، و ثالث يجزم بأن:” السعادة هي الحرية ” فتؤمن الأغلبية ، يضيف آخر ” السعادة هي النجاح و الحصول على شهادة البكالوريا ” تتعالى الأصوات بالإجماع ، ثم تتواتر الأجوبة ” السعادة هي الشهرة ” ” السعادة هي الحريك ( الهجرة ) ” و هكذا دواليك……
أما هي ، فكانت تنتقد و تدحض تلك الأجوبة لتكشف مضمونها المادي ، النسبي و المتغير مستعينة بنص للفيلسوف كانط ، فالزوجة الجميلة قد تكون خائنة و تصبح مصدر تعاسة و شقاء و السلطة قد تنقلب على أصحابها فتكون نهاياتهم مأساوية (مثل نهاية الزعيمين: صدام حسين و القذافي رحمهما الله ) و الشهرة قد تستعبد صاحبها و تسلبه حريته، و الحريك ( الهجرة السرية ) قد يكون النهاية المحتومة. …..
بغتة، رفع أحدهم صوته بجواب اعتقد انه حل المعضلة ، و كانت نبرة صوته تشي بزهو المنتصر :” السعادة هي القناعة، و القناعة كنز لا يفنى ” . أمام صمت الجميع ، وافقته الأستاذة الرأي قبل أن تسأله :” هل توصف القناعة لمن يعضه الجوع، للمحتاج، للمريض ؟ ”
ثم أضافت :” القناعة وصفة للمنعمين في الأرض و ليس للمقهورين، القناعة أو الرضى هي سبيل لمن توفرت لديه شروط العيش الكريم. ”
بعد فقرة التشكيك في التمثلات المتداولة ، استنتجت معهم الأستاذة أن السعادة ، و إن التبس معناها هي قيمة أخلاقية ، هي غاية الغايات و هي إشباع و ارتواء بعد حرمان ، و أنها ممكنة لو توفرت شروطها ، و مستحيلة مستعصية لو أفلتت منا تلك الشروط .و هي نسبية ، متغيرة و مختلفة باختلاف المرجعيات ، قد تكون مادية مرتبطة بالإشباع الغرائزي و جني الملذات (عند العامة من الناس ) ، و قد تكون فكرية يصنعها عقل منطقي يقظ ، منتج لعلوم و لمعارف( مع الفلاسفة ) و قد تكون روحية لا يحصلها الا السالكين و العارفين بالله حين تنكشف الحقيقة و تسقط الحجب بالمجاهدة و تطهير الذات ( عند المتصوفة )
لكن اهم ما في الأمر بالنسبة للأستاذة كان هو أن تتوفق في إقناعهم في الاخير بان السعادة ممكنة غير مستحيلة ، و لو بشكل نسبي ، و هي صناعة ذات متوثبة لقيم الحق و الخير و الجمال ، بعيدا عن الحروب و الصراعات و المطاحنات و أنها واجب الإنسان نحو ذاته و نحو الغير و لهذا عليهم ان يتعلموا قواعد الإمساك بها .
أشرفت الحصة على نهايتها ، و الأستاذة تسابق الزمن لتفلح في تحقيق رهانات خططت لها ، إذ يفاجئها تلميذ قابع في ركن قصي ، كان صامتا و معتزلا النقاش طيلة الحصة ، بسؤال لم يستأذنها في طرحه : ” هل انت سعيدة استاذتي ، بما انك تعرفين الكثير عن السعادة ، و إمكانها و شروطها ؟”
سؤال كهذا ، و في لمح البصر سلب منها مقاليد القيادة ، و كان كفيلا بقلب ميزان القوى ، و كأنه جاء دور التلميذ لينسف، و بمثال حي ، كل محاولاتها في الإقناع و الحسم في النتيجة.
ابتسمت الأستاذة ابتسامة تحاكي في غموضها تلك التي أبدع الرسام دافنشي في رسمها على محيا السيدة ليزا ، في لوحة الموناليزا ، لا تترجم أي نوع من المشاعر ، فلا هي دليل حزن و لا علامة على الفرح و لا حتى رمز لحسرة أو تيهان، هذا و شريط مشوش تنساب أجزاؤه في ذهنها ، تراءت لها فيه اختياراتها، انتصاراتها ، انجازاتها ، انكساراتها، اخفاقاتها ……
أعاد التلميذ الكرة منتشيا بضربته الترجيحية الموفقة في نهاية المباراة :” هل انت سعيدة ؟ ”
أجابته :” السعادة……أضعتها يوم سقطت مني سهوا “.

اترك رد

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

الاخبار العاجلة

نستخدم ملفات الكوكيز لنسهل عليك استخدام موقعنا الإلكتروني ونكيف المحتوى والإعلانات وفقا لمتطلباتك واحتياجاتك الخاصة، لتوفير ميزات وسائل التواصل الاجتماعية ولتحليل حركة الزيارات لدينا...لمعرفة المزيد

موافق

اكتشاف المزيد من أخبار قصراوة العالم

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading