ذة : سمية نخشى
كانت حصة استثنائية تلك التي كتبت الأستاذة عنوان الدرس فيها عريضا أعلى السبورة الخشبية السوداء بالطباشير الأبيض ، و عملت و بعناية كبيرة على تجميله بزخرفة و بخطوط حاولت أن تتوفق في رسمها رغم إمكانياتها الفنية الضعيفة..
بمجرد قراءة العنوان :” السعادة ” ، تعالت همهمة بعض التلاميذ ، ووشوشة البعض الآخر ، كما تناثرت الابتسامات هنا و هناك ، تحمل الكثير من المكر بين مستفسر، مستهزىء و متحسر….و تناهت إلى مسامع الأستاذة أسئلة تلقائية ، لكنها مستفزة من قبيل : أين السعادة ؟ من يدلنا عليها ؟
أ هي حقيقة أم مجرد وهم تحاولون معشر الأساتذة تخدير عقولنا به؟ هل من سعادة مع الفقر؟ هل من سعادة مع المرض؟ هل من سعادة مع مقرراتكم الطويلة، العريضة و المبهمة كما لو كانت برديات فرعونية أو طلاسم من زمن غابر؟
استجمعت الأستاذة قواها العقلية و البدنية ، و هي تتحرك بين الصفوف بهمة عالية ، و ذلك قبل أن تستعيد بشكل كامل سيطرتها المعهودة على الفصل الدراسي ، فعم الهدوء و الصمت الخارجيين و لكن صخب و ضجيج الافكار الداخلية الثائرة كان مسموعا لديها بشكل واضح.
و كأي درس فلسفي ، كان الاستهلال بالانفتاح على الأبعاد الإشكالية للموضوع من خلال طرح تساؤلات تستهدف بدءا مفهوم السعادة، امكانيتها، طبيعتها ثم شروطها اذا كانت ممكنة.
كالعادة، انخرط التلاميذ في صياغة الإشكالات، و في التماس الإجابة عنها قبل الوقوف عند آراء المفكرين و الفلاسفة .
و على غير العادة تمردت الأستاذة على الدرس الأكاديمي، إذ أوكلت للتلاميذ مهمة توجيهه أنى هداهم تفكيرهم ، و حيث أغواهم قلقهم المعرفي و الوجودي دون التزام بالخطوات المسطرة سلفا في الكتاب المدرسي . مكنتهم من الدفة ، جعلتهم يرفعون الشراع لتمخر سفينتهم عباب مغامرة فكرية قد تصحح تمثلاتهم الخاطئة و قد تؤسس لتصورات رشيدة بعيدا عن بادىء الرأي، عن سلطة المعارف الجاهزة و عن أفكار سوداوية تهدم و لا تبني ، تشكك ولا تشيد.
استجاب التلاميذ لدعوتها ، شحذوا همتهم و بدأوا رحلة الاستكشاف تلك في أغوار النفس البشرية ، و استرسلوا في محاولة تعريف السعادة ، فهذا يقول :” السعادة زوجة جميلة ” ليضحك مجموع القسم، و ذاك يعترض عليه قائلا :” السعادة هي المال ” فتؤيده فئة كبيرة ، و ثالث يجزم بأن:” السعادة هي الحرية ” فتؤمن الأغلبية ، يضيف آخر ” السعادة هي النجاح و الحصول على شهادة البكالوريا ” تتعالى الأصوات بالإجماع ، ثم تتواتر الأجوبة ” السعادة هي الشهرة ” ” السعادة هي الحريك ( الهجرة ) ” و هكذا دواليك……
أما هي ، فكانت تنتقد و تدحض تلك الأجوبة لتكشف مضمونها المادي ، النسبي و المتغير مستعينة بنص للفيلسوف كانط ، فالزوجة الجميلة قد تكون خائنة و تصبح مصدر تعاسة و شقاء و السلطة قد تنقلب على أصحابها فتكون نهاياتهم مأساوية (مثل نهاية الزعيمين: صدام حسين و القذافي رحمهما الله ) و الشهرة قد تستعبد صاحبها و تسلبه حريته، و الحريك ( الهجرة السرية ) قد يكون النهاية المحتومة. …..
بغتة، رفع أحدهم صوته بجواب اعتقد انه حل المعضلة ، و كانت نبرة صوته تشي بزهو المنتصر :” السعادة هي القناعة، و القناعة كنز لا يفنى ” . أمام صمت الجميع ، وافقته الأستاذة الرأي قبل أن تسأله :” هل توصف القناعة لمن يعضه الجوع، للمحتاج، للمريض ؟ ”
ثم أضافت :” القناعة وصفة للمنعمين في الأرض و ليس للمقهورين، القناعة أو الرضى هي سبيل لمن توفرت لديه شروط العيش الكريم. ”
بعد فقرة التشكيك في التمثلات المتداولة ، استنتجت معهم الأستاذة أن السعادة ، و إن التبس معناها هي قيمة أخلاقية ، هي غاية الغايات و هي إشباع و ارتواء بعد حرمان ، و أنها ممكنة لو توفرت شروطها ، و مستحيلة مستعصية لو أفلتت منا تلك الشروط .و هي نسبية ، متغيرة و مختلفة باختلاف المرجعيات ، قد تكون مادية مرتبطة بالإشباع الغرائزي و جني الملذات (عند العامة من الناس ) ، و قد تكون فكرية يصنعها عقل منطقي يقظ ، منتج لعلوم و لمعارف( مع الفلاسفة ) و قد تكون روحية لا يحصلها الا السالكين و العارفين بالله حين تنكشف الحقيقة و تسقط الحجب بالمجاهدة و تطهير الذات ( عند المتصوفة )
لكن اهم ما في الأمر بالنسبة للأستاذة كان هو أن تتوفق في إقناعهم في الاخير بان السعادة ممكنة غير مستحيلة ، و لو بشكل نسبي ، و هي صناعة ذات متوثبة لقيم الحق و الخير و الجمال ، بعيدا عن الحروب و الصراعات و المطاحنات و أنها واجب الإنسان نحو ذاته و نحو الغير و لهذا عليهم ان يتعلموا قواعد الإمساك بها .
أشرفت الحصة على نهايتها ، و الأستاذة تسابق الزمن لتفلح في تحقيق رهانات خططت لها ، إذ يفاجئها تلميذ قابع في ركن قصي ، كان صامتا و معتزلا النقاش طيلة الحصة ، بسؤال لم يستأذنها في طرحه : ” هل انت سعيدة استاذتي ، بما انك تعرفين الكثير عن السعادة ، و إمكانها و شروطها ؟”
سؤال كهذا ، و في لمح البصر سلب منها مقاليد القيادة ، و كان كفيلا بقلب ميزان القوى ، و كأنه جاء دور التلميذ لينسف، و بمثال حي ، كل محاولاتها في الإقناع و الحسم في النتيجة.
ابتسمت الأستاذة ابتسامة تحاكي في غموضها تلك التي أبدع الرسام دافنشي في رسمها على محيا السيدة ليزا ، في لوحة الموناليزا ، لا تترجم أي نوع من المشاعر ، فلا هي دليل حزن و لا علامة على الفرح و لا حتى رمز لحسرة أو تيهان، هذا و شريط مشوش تنساب أجزاؤه في ذهنها ، تراءت لها فيه اختياراتها، انتصاراتها ، انجازاتها ، انكساراتها، اخفاقاتها ……
أعاد التلميذ الكرة منتشيا بضربته الترجيحية الموفقة في نهاية المباراة :” هل انت سعيدة ؟ ”
أجابته :” السعادة……أضعتها يوم سقطت مني سهوا “.