الطفل الذي كنته – شقاوة طفل ذ.جمال عتو

6 مايو 2022

نظرا لمشاركة بعض الأصدقاء والصديقات في سلسلة” الطفل الذي كنته ” يسعدنا أن نقدمه في حلقات من إعداد الإعلامية أمينة بنونة. ترصد السلسلة من خلال ضيوفها – كتابا وكاتبات أدباء وفاعلين في الحقل الثقافي – تجارب خاصة بمرحلة الطفولة والتي عادة ما تشكل بوادر توجهاتنا ومساراتنا المستقبلية
********************
المكركب ، لارانج ، المزاح ، خرا دالجنون ، سبسبوت ، حويطة ، سفيرينة ، الكرة ، تسابيقة ، التشعليقة فالكارو ، مطاردة حمير باعة اللبن والحليب ، اصطياد البوليق بالعقبة الحمرا ، الجري وراء حمام قوس المحلة ، تبادل صور سندباد البحري ، وعلي بابا وأبطال مسلسل المنزل السعيد وعازف الليل والصمت ، التلفزة بالأبيض والأسود التي يبتدأ بثها عند الساعة السادسة مساء وينتهي عند الحادية عشرة ليلا ، وإن قدر انقطاع التيار الكهربائي عن المدينة قضى أهل البلد المساء والليلة على ضوء الشمع أو فتيلة قنينة بوطاكاز الصغيرة .
تلك عوامل لم تكن الا أن تؤثث حياة الطفل ذي السنوات الاحدى عشر بعيدا شيئا ما عن محيط المدرسة الابتدائية أيام العطل ، كان حينها متحررا من برودة القسم وشارب المعلم الصلب وحارس الباب الحازم ورائحة مطبخ المؤسسة التي تفوح فتغمر الفضاء في اشتهاء ، ومتحررا من استظهار جدول الضرب ودروس التاريخ والمحفوظات وعلوم السماوات والأرض ، ينسى الطفل كل شيء ليتماهى في عالمه الطفولي الشقي .
حلت عليه عطلة قصيرة أرادها طويلة وحافلة ببرنامج ارتجالي لكنه مفتوح على كل الاحتمالات قضى أغلبها في فضاء الحي الشاسع ، كانت مآثر الاسبان لم تبرح أمكنتها ولم تفقد بريقها بعد ، صهاريج الخيالة وراء السلالين ، وبناية الخيرية ، التفتيشية التعليمية ، ديور العسكر قبالة مدرسة مولاي بوغالب ، مدفع سيدي عيسى بن قاسم ، مدخل الخيالة ، مركب الداخلي قبالة مدرسة المنزه ، لطالما افتخر الطفل بهذه المآثر في حيه العتيق وصار يصرف فيه شغبه اللا محدود .
لم يبق من العطلة الا ثلاثة أيام ليلج عوالم الدراسة من جديد ، وعلى عاتقه فروض عربية وفرنسية لطالما أكد المعلمان على انجازها متوعدان بالحاق أقصى العقوبات بمن حل بالقسم متهاونا .
في الأيام الأخيرة بالذات ستنظم مقابلات في كرة القدم بين الأحياء ليجد الطفل نفسه في هيأة التنظيم والاعداد والتوجيه وتكوين فريق السلالين والمحلة مجتمعين تحت قيادة الزعيم الجيلالي ذي الأربعة عشرة سنة ، كان التفكير منصبا في ايجاد فريق مكتمل يقارع أعتى الفرق الكروية كدوار العسكر والباريو وكاصاباراطا والمرس ودار الدخان ، ضاع من بال الطفل عالم المدرسة وفروض المدرسة وحس المدرسة خصوصا عندما عين الطفل من طرف الجيلالي في دفاع الفريق أمام الحارس مباشرة ، فالمسألة أصبحت دفاعا عن حمى الحي بأكمله وصار الطفل بطلا قوميا سيسطر أروع البطولات ويكتب اسمه بحبر من ذهب خصوصا وأن حي المحلة سيكون البلد المضيف .
استعرت المواجهات وحمي الوطيس بعد اعداد وتوجيه وتداريب ب ” شورطات ” أغلبها مجزءة من سراويل بالية مترهلة وأحذية رياضية بلاستيكية ” الباهية “، يومان ونصف كانت كافية لاقصاء فرق ووصول فريقي المحلة ودوار العسكر للنهاية التاريخية ، كان الطفل يقضي نهاره في الاعداد والمواجهة وليله في تعقب برامج الاذاعة وهو ملقى على ظهره فوق الحصير ، لم يخطر بباله انجاز فروض المدرسة وحتى وان حدث ذلك فيسوفه الى حين ، حل منتصف اليوم الأخير من العطلة ورفع الستار عن مقابلة النهاية التي دامت ساعتين يديرها حكم من المرس يدعى حميدو وهو تلميذ بالشهادة الابتدائية لتنتهي بفوز فريق دوار العسكر بأربعة عشرة هدف مقابل اثني عشر من أهداف المحليين .
كان على الطفل أن يستحم مساء ويستريح ، وقبيل غروب الشمس قام بجولة لرفع اللياقة رفقة العميد الجيلالي بمحيط مدرسة المنزه ، أراد الاستمتاع بازدراد خرا دالجنون ، رمى بالحجارة الشجرة لتمطره بوابل من الفاكهة السوداء ، التقط منها وصار يملأ جيبي سرواله ، يلمح معلم اللغة العربية عن بعد ، كان حينها على مايبدو قافلا من القسم بعدما هيئ درسا على السبورة العريضة اغتناما لوقت الصباح المقبل ، المعلم لم يبد اكتراثا ، لكن الطفل أوجس في نفسه خيفة ، ودع صديقه في ارتباك واتجه سريعا الى المنزل لانجاز فروض اللغة .
أبى التيار الكهربائي الا أن ينقطع في الليل بفعل عاصفة تتقدم شتاء منهمرا ، كان الطفل حينها ” يدك المحفوظات ودرسين من التاريخ والنحو والصرف دكا ” لكن الظلام الدامس أذهب عنه تركيزه كثيرا رغم اسعافه بضوء شمع خافت ، زادت من ارتباكه وتوجسه نظرات المعلم الغامضة ، صار يستعرض ما أسعفه الحفظ في خوف ووجوم ، ويده تتحسس من حيث لايدري جيبيه ويرمي حبات خرا دالجنون في فمه دون استمتاع يذكر .
نام الطفل نومة متتقطعة تتخللها هواجس من هنا وهناك هي أقرب الى كوابيس ،تمتثل له كرة طائشة وأوامر العميد الجيلالي ودراع حارس المدرسة المفتول ونظرات المعلم المتوارية مساء وصفير وحمام وظلام وشمع وأبيات من شعر الشابي وسيف السلطان مولاي اسماعيل وسد واد أم الربيع ، يقوم بعدها على نور الفجر ليتدارك ماضاع منه من والوقت ، كان التعب يأخذ بتلابيبه ، لم يسعفه اسيقاظه المبكر من انجاز ماهو مطلوب منه ، ارتدى معطفه الأزرق الداكن وحمل خبزا محلى بالزيت والسكر محتفظا بسرواله الذي نام به وفي جيبه ماتبقى من حبات خرا دالجنون .
امتثل الطفل التلميذ واقفا أمام المعلم مباشرة عندما حان دوره في الاستظهار ، كانت نظرات المدرس الفارع الطول لا تغرب عنها المحاسبة والعتاب القبلي ، أحس الطفل بالخطر الحاذق ، استظهر ، حاول شد العضد ، قاوم كثيرا ، الا أنه فشل في تذكر بعض محطات تاريخ المملكة المفصلية .
اقترب منه المعلم ، لمح انتفاخ جيبه الأيمن ، تحسسه ، أخرج حبات من فاكهة خرا دالجنون ، فأصدر حكمه الغير القابل للاستئناف :
أن توجه للطفل شحطات بأنبوب البوطاكاز على مستوى قدمه بعدد ما تبقى من حبات الفاكهة في جيب سرواله عقابا على هدر وقت الاعداد والتهاون واللعب الغير المناسب .
كادت قدما الطفل أن تشل بعدد الضربات المؤلمة ، عاد الى حال سبيله مخفيا ماتعرض له عن والدته ، انتابته بعض الحمى بعد منتصف النهار ووهن شديد ، الأمر الذي جنبه العودة الى المدرسة مساء ليلقى نفس المصير أو أشد عند معلم اللغة الفرنسية .
فكم من نقمة في طيها نعمة .

اترك رد

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

الاخبار العاجلة

نستخدم ملفات الكوكيز لنسهل عليك استخدام موقعنا الإلكتروني ونكيف المحتوى والإعلانات وفقا لمتطلباتك واحتياجاتك الخاصة، لتوفير ميزات وسائل التواصل الاجتماعية ولتحليل حركة الزيارات لدينا...لمعرفة المزيد

موافق

اكتشاف المزيد من أخبار قصراوة العالم

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading