الطفلة التي كنتها قـصـــر الـذكـريـــات ذة رشيدة القدميري

10 أبريل 2022

الطفلة التي كنتها ” سلسلة رمضانية” تعدها الإعلامية أمينة بنونة .
ترصد السلسلة من خلال ضيوفها – كتابا وكاتبات أدباء وفاعلين في الحقل الثقافي – تجارب خاصة بمرحلة الطفولة والتي عادة ما تشكل بوادر توجهاتنا ومساراتنا المستقبلية
*** حلقات تعدها : أمينة بنونة

في صغري كنتُ على يقينٍ تام بأن حلَّ كل مشكلاتي مسألة وقت فقط، وأنني حينَ أكبر سأتخطى كل الصعوبات.

كبرنا بل هرمنا، بعض اللحظات من عمرنا مرت كالحلم الوردي، لم يَتوقف الزمن عندها إلاَّ مضطرا، ثم تابعَ سفره غير آبه بروعتها، يلتهمُ الدقائق والساعات، ولحسن الحظ، للذاكرة فراملها الخاصة تستعمِلُها في أوقات معينة، لا أحد يعرف أسرارها، تجعلُ الحلم أقرب للحقيقة، تمنحه قُدرَة سحرية على الاستمرارية…
كالندى يُداعب خد الياسمين بقبلة، كضحكة الفجر، كعبير الورد، هكذا كان جارنا الحاج الحسين يتصدَّقُ منذ الساعات الأولى للصباح بالابتسامات على جيرانه، دون استثناء، حتى جزارُ الحي اللعين الذي كان يقضي ليلتهُ في معاقرة الخمرِ، وهوايته الوحيدَة إِشباع زوجته النحيلة كالمسمار ضربا وشتما، كان يصلُهُ نصيبهُ من صدقات الحاج الحسين الصباحية.
يساعدُ الصغار في عبور الطريق للمدرسة، ويُعينُ كبار السن على حملِ القفة إلى باب المنزل، وسبحته لا تُفارقُ أصابع يده.
بحثتُ عن وجوه أعرفها بين المارين بسرعة البرق، وكأنهم في سباقٍ مع الوقت، عن بيوت صغيرة بأبوابها الخشبية التي كان علينا الانحناء لتجاوزِها، عن أماكن أحفظُ زواياها عن ظهر قلب، فلم أجد لها أثرا. بحثت عن وُرودٍ كانت هُنا بالأمس البعيد تُزين مدخل بيتنا القديم، تُغطي جنباته كزربية بألوان الطيف، ورغم صغر سني، كنت أعرفُ قيمتها الجمالية، فكنتُ أرعاها وأسقيها بحبي… لم أجد سوى أسوار من الإسمنت تعزلُ الناس عن بعضهم، وكأنهم في سِجنٍ انفرادي، حتى خيل إلي أنهم مُتَخاصِمون، أو لا يتكلمُونَ اللغة نفسها…
أَينَ هي تلك الأماكن التي أشبعناهَا لعبا وضَحكا وركضا؟ لا أرى شبرا فارغا، حتى الرصيف استعمرته الطاولات والكراسي… مقهى.. فمقهى، وبينهما مقهى ثالث…
لم تكن لديَّ جدة، لكن جدات صديقاتي كن كلهن جداتي، كانت إِحداهُن هي الأكثر قربا إلى قلبي، التجاعيدُ على وجهها الأبيض المشرق، والتي تحكي رحلةَ عمر شاقة، لم تُفقده جماله الطبيعي الجذاب الذي لم تمسّهُ لا يد طبيب تجميلٍ… ولا زينته الألوان والكريمات…
كانت «جدتي حسناء”- كما كانت تحبُّ أن أناديها- تَغمُرني بحنانها وحبها، وإن تأخرتُ في العودة من المدرسة قَلقت علي، وسألت عنِّي رفاقي، وإن مرضتُ لا تُفارقُني حتى في نومي… إلى أن يأذنَ الله لي بالشفاء… كانت تُخفي قطع الحلواء في جيبها، وتُقدِّمها لي قبل أن أقبِّلَ يدها، تحكي لي الكثير من الحكايات؛ بعضها تُؤلِّفهُ بنفسها، وتتخيَّلُ أبطاله وأحداثه المشوقة، وبعضها حفظته عن جدتها أَوْ أُمها…فأنام على ركبتها… وهي تُلاعبُ خصلات شعري بأصابعها…
غيابُ والدتي لم يكن يزعجني كثيرا، فجارتنا كانت تحلُّ محلها في إطعامي وتلبية طلباتي… لم نكن نَقْلقُ أبدا، بخصوص وجبة الغداء، فمن استوى طَبْخُها من الجارات قبل العودة إلى مدرسة تُطعِمنا جميعا، وبدون استثناء…
في الساحة الخارجية لمنزلنا كانت- هناك- نافذة صغيرة تطلُّ على بيت جارتنا فاطمة، كانت هذه النافذة كقناة السويس، مَعبرا لكل ما لذَّ وطابَ من أطعمة تُطبَخ في الجهتين.
الآن هذه العمارات التي تُشاكس السحاب تمنعُ الرؤية على بُعدِ كيلومترات…
أين هي تلك الأبواب الخشبية العتيقة التي كانت بلا أقفال؟ وإن حدثَ وعدتُ من المدرسة في غياب أُمّي، أهرعُ لبيت الجيران، ولا أتوقَّفُ عن الركض إلا أمام جارتنا وسط المطبخ، فتُدللني، وتُطعمني، وتهتمُّ بي إلى حين عودة والدتي.
أين هي سهراتنا؟ أين هي سهرةُ يوم السبت على وجه الخصوص؟ حيث كنا نَجتمعُ على نغمات صوت أم كلثوم الطروب، وكؤوس الشاي المنعنَع، ونحن نتراهنُ على لون فستانها الذي لا نراهُ في كل سهرة إلاَّ بالأبيض والأسود، ولا ننتبهُ لمرور الوقت إِلاَّ حين ينتهي الإرسال، وننامُ جميعا في المكان نفسه.
بعد سنوات من الغياب عدتُ لمدينتي في زيارة لبضعة أيام، كَبرتُ… وكبرتِ المسافات بين أهلها… بُنيت الأسوار، ابتعدَ الناسُ عن بعضهم وتَغيَّرَ كل شيء. البنايات العالية عوَّضَت تلك البيوت الصغيرة القديمة، الإسفلتُ غطَّى كل المساحات، واللون الأخضر اختفي إلاَّ من أماكن تُعدُّ على رؤوس الأصابع.
أُقفلت الأبوابُ، وعَوَّض الحديد الخشب المهترئ، تحجرت القلوبُ، تَجمَّدت العلاقات وسكنها الصقيع، والشعور بالوحدة والعزلة تساقطَ على جُدران الأرواح، فأصبح الناس يعيشون كالغرباء، حتى داخل البيت الواحد…
وهذا الحيُّ الشامخ أمامي الآن، حي الفرفارة أو طريق العرائش، لا شيء أذكره منه أكثر من النباتات تغطي مُعْظَم مساحته، والأشجار تحفهُ بظلالها من الجانبين.
الحديث عن هذا الحيِّ الذي تربيتُ فيه يطولُ… ويطولُ… رقيق، عذب أحيانا… مزعج، محزن أحايين أخرى… شعور لم ولن يفهمهُ إلا من قضى طفولته بهذا المكان الساحر.
رغم طول اليوم، كان الوقت فيه يمرُّ بسرعة… الأمل يلازم سكانه، وابتسامة الرضا تهون كل الصعاب، حتى ضنك العيش وقساوة الحياة…

تعلَّمتُ في هذا الحيِّ معنى الصداقة… معنى الجوار… معنى أن تنامَ بسلام، وليسَ في جيبك دِرهم واحد… أن تحلُم بألوان الطيف، وأنت لا تملكُ سوى قُوت يومك أو أقل.
التراب مازالَ على عهدهِ، رائحتهُ لم تتغَيَّر، حتى لونه مازال كما هُو…
بدأت جولتي من حي الفرفارة لأعود إلى طفولتي…
ما احلاها ديك الدورة
من الفرفارة
لمحمدية
لسوق الحنة
للشريعة
ل باب الواد
لدوار العسكر
ل لمناكيب
ل دار الدخان
لحي الديوان
ل لخردين
ل سكرينية
ل وسط لمدينة
وب كل سكينة
تفكرت أيام الخاوة
تفكرت أيام الصفا والنقاوة
تفكرت أيام كانت فيها
لكلمة الداوية
على اكتاف العشرة
مرفوعة للسما العالية
على كفوف الجورة والطيبة
راضعة لمحبة الصافية
أيام كانت فيها
الكلمة وثيقة
والبسمة ما تفارق لوجوه..
يحلى لكلام
ترطاب لقلوب
ب تسباق السلام
ف الصباح وف العشية
تفكرت أيام
كان الخير كيفيض
على حساب الجورة
على حساب المحبة
وعلى كل الحومة
كيدير الدورة
تفكرت
ديك البسمة
ديك الگلسة
ديك اللمة فدار لميمة
تفكرت الواليد
تفكرت الواليد الله يرحمو
وهو كيقول :
“الصحبة والجورة والخاوة
حدها الدنيا الفانية”
ما أحلاها ديك الدورة
خلات ذكريات ف لبال محفورة
لكن ليوم : شلا حوايج نقصات
طريق الفرفارة
ياحسرة، ميات حسرة
وآلف تنهيدة مرة
ضحات بلا غرصات
سيدي عقوب
بلا نخلات
حتى ديك الشجرات
لي شهدت على شلا ضحكات
لعب، جرا، وتنكات
خسارة، إيه خسارة
لوقت ولحالة تغيرات
هاهي العمارات
ف بلاصتها نبتات..
لكن ريحة التربة
وصفاوة قلوب
ولاد لبلاد
عمرها ما تبدلات
ولا خانت العشرة
في القلب بقات
ف العروق سرات
وكل ما بعدنا على لقصر
محبتو ف قلوبنا
تزيد تكبر
ويمكن ترافقنا وحنا ف لقبر
من بعد رحيلنا وخلاص لعمر…
في ذاكرتي لم يتغير شيء، كلما شعرتُ بالحزن يَجتاحُني بصقيعهِ أتسكَّعُ في أزقة يوميات طفولتي الدافئة، أتأبَّطُها كعكاز يُقوِّم اعوجاجَ ما أصبح عليهِ حال مدينتي المحزن حدَّ الوجع…
رحماك ربي ما هذا الجفاء الذي أصبح يغلُّفُ قلوبنا ونحن نسيرُ نحو حتفنا؟ أَبعدَ طولِ غياب لا أنعمُ بذاك الدفء الذي اشتقت له؟ لا أرى تلك الابتسامة التي كانت تمدني بالأمل؟ هل حياتنا أصبحت قاسية لدرجة تحجَّرَت معها قلوبنا، وسكنها الغبار؟ والسؤالُ الأهم: هل خسرنا كل شيء حين خضعت علاقاتنا لمنطقِ التجارة، وأصبحنا نحبُّ ونكرهُ، نقتربُ ونبتعدُ عن بعضنا بِقدرِ الربحِ والخسارة؟
“مُجَرَّدُ سُؤال”

اترك رد

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

الاخبار العاجلة

نستخدم ملفات الكوكيز لنسهل عليك استخدام موقعنا الإلكتروني ونكيف المحتوى والإعلانات وفقا لمتطلباتك واحتياجاتك الخاصة، لتوفير ميزات وسائل التواصل الاجتماعية ولتحليل حركة الزيارات لدينا...لمعرفة المزيد

موافق

اكتشاف المزيد من أخبار قصراوة العالم

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading