الخليل القدميري :
ما إن التقيته بعد عزلته لمدة طويلة، حتى انهال علي سيل كلامه المحموم عن حالة وجدانية يعيش أطوارها منذ مداومته على زيارة أضرحة الأولياء الصالحين.
وذكر بيقين العارف المتمكن، أن نهجه استنار بعد عثوره على مبرر وجوده في الحياة الدنيا، وتأكده أن لا حقيقة في الوجود غير تلك التي انجلت واضحة أمام عينيه، وما فتئت تأتيه عبر رسائل مرموزة، لا يحسن فك شيفرتها إلا من هم في مستوى فهمها، من خاصة الناس وأصفيائهم. والغبي، في نظره، من يميل إلى تصديق ما تروِّجه العامة حول البركة والمناقب والكرامات، لكونها ميدان محفوظ للخاصة من الفضلاء والصلحاء. وحده العالِم بعلوم الدين والدنيا، مؤهل لإدراك مغزى ما تتضمنه تلك العلامات من دلالات، بعدما يكون قد وضعها تحت محك يقينه، مستجيراً بخبرته، قبل التسليم بها. والمعرفة لديه قسمان: معرفة ظاهرة سطحية ونسبية، وهي في متناول العامة، ومعرفة باطنية مطلقة لا تدرك إلا بإيحاء من الأولياء.
وأسهب في الحكي عن ولعه بقراءة كتب المناقب والسير والكرامات، وزيارة الأولياء كلما قصد وجهة معينة على طول البلاد وعرضها. بل إن زيارة الصلحاء لديه مقدمة على ما عداها من الأمور، لأنه يلتمس منها أن تمهد له السبل لقضاء مآربه بكل سهولة ويسر.
استمعت إليه باهتمام، وأخبرته أني أقدر حالته الوجدانية، وأعلنت عن رغبتي في دعوته إلى جلسة خاصة، نستعد خلالها لتقديم أفكاره إلى عموم القراء، لإبراز جوانبها المعرفية والعرفانية. برقت عيناه وانتفض ضد هذه الفكرة، بحكم أن نشر هذه المعارف، التي قضى في تحصيلها عدة سنوات، سيتيح لغير العارفين إمكانية الخوض في أسرار خفية، لا تحتمل سوى التصديق والتسليم، وبحركة توحي بذلك، قام منصرفاً عني.
التقيته في اليوم الموالي بنفس المكان، وأصدقته القول عن كل ما سمعته منه بالأمس، وعبرت له عن موقفي، حينما وجدت نفسي أواجه إنساناً له نفس الملامح الفيزيولوجية للشخص الذي عرفته منذ الصغر، لكن بأفكار قد تغيرت، دون أن ينعكس ذلك على سلوكه، ليتحقق حد أدنى من التوافق بين أقواله وأفعاله. قلت له بصدق، إن البداهة في حد ذاتها إقصاء، كما يقول العارفون. لكنه أصر على أن ما قاله هو الحقيقة وأن ما عدا ذلك يخلو من كل قيمة معرفية، ولا يستحق أن يطرح إلا لتسفيهه وإبطاله.
كانت تلك حقيقة ما يعانيه من ثنائية مثيرة للقلق؛ ثنائية الشخص الخفي والجلي فيه. يشعر من خلالهما كأنه شخصان من طينة مختلفة، يعيشان مع بعضهما البعض، ولا يتعايشان أبداً، أحدهما شاخ قبل الأوان، وصار بذلك مزعجا لنفسه ولغيره، بينما الآخر بقي خفيف الظل، لكنه مجرد قناع لشخصية كامنة في قرارة نفس صاحبها.
الرباط 22/02/2022.