“طفل الأمس واليوم

22 فبراير 2022

الخليل القدميري

كلما حظي الطفل بهامش من الحرية في اللعب، وارتياد الفضاءات الخضراء المحيطة بالمدينة، حيث الأشجار والحقول والبساتين، تتاح له فرص أكثر ليفرغ طاقاته في اللعب، ويستأنس بمظاهر الحياة من حوله، ويظهر مواهبه، ويمرن مداركه على الإبداع والابتكار.
أطفال الأمس، في مدينتي الصغيرة، استمتعوا بصفاء الطبيعة، وبسحر فضاءاتها الخضراء، خاصة في فصل الربيع، حيث تمكنوا من إشفاء غليلهم في اللعب متنقلين عبر ضفاف واد اللوكوس، من قنطرة الواد الجديد بطريق العرائش إلى قنطرة طريق الرباط؛ حيث يعبرون عدة محطات على ضفاف الواد؛ فيصادفوا نساء المدينة، منهمكات في غسل صوف الغنم وتنشيفه على ضفتي الواد، يرفعن عقيرتهن بالغناء والزغاريد و” العَيُّوعْ”، ورائحة أباريق الشاي المنعنع تخيم على المكان.
شاهد أطفال الأمس الفلاحين يبللون الأرض بعرق جبينهم، والرعاة يحرسون قطعان الماشية مستعينين بكلابهم المدربة، يتفيأون ظلال الأشجار الوارفة. ومن حين لآخر، تأتي نغمات الناي الحزينة، محمولة على نسمات الهواء الغربي العليل. وما صوت الناي سوى ” تنهيدة عاشقة تتحسر على محبوبها”، أو كما قال الناي عن نفسه:” منذ أن فصلوني عن منبتي في القصب، ونواحي يدفع الرجال والنساء إلى البكاء”.
أطفال الأمس كثيراً ما قضوا أيامهم في الخلاء، مكتفين بتناول ما يصادفونه في طريقهم من نباتات وثمار. يتسللون إلى البحائر والبساتين، دون أن ينتبه إليهم أحد، اللهم عندما تداهمهم كلاب الحراسة، أو يفاجئهم حراس الضيعات، وهم منهمكين في قطف الغلال، فيهرعون هاربين مذعورين، متخلين عن أحذيتهم وبعض ملابسهم وأمتعتهم. وشكلت هذه المفاجآت مناسبة للتسلية والضحك، لما خلفته من مواقف حرجة، ولما أصاب الأطفال خلالها من ذعر وارتباك.
كانت علاقة أطفال الأمس بالفضاءات الطبيعية، المحيطة بهم في المدينة، منفذهم لتنمية علاقتهم بالآخر، ممثلا في الإنسان والنبات والحيوان، كما أنها وسيلة تسلية تحول دون شعورهم بالملل، وتدفعهم إلى المبادرة بصنع وسائل لعبهم بأيديهم، مما يعثرون عليه في الطبيعة من أعواد وأعشاب ومتلاشيات، يعالجونها بمعرفتهم ويصنعون منها لعباً، يزجون بها وقتهم ويؤنسون وحشتهم.
لاتصال أطفال الأمس بالطبيعة أثر على نموهم سالمين جسدياً وعاطفياً، لأنهم ربطوا علاقة متميزة مع الكون، فنعموا بالارتياح، وبلغ اهتمامهم بالطبيعة مستوى حال دون أن تتسرب إليهم المنغصات التي تعكر صفو الحياة وتؤثر على المعنويات. تلك كانت ولا شك، أفضل هدية قدمها لهم آباؤهم، من دون أن يتوفر لديهم الوعي والإمكانيات المادية الكفيلة بإعدادهم للمستقبل.
شعور أطفال الأمس بانتمائهم للأرض كفيل بمنحهم الاستقرار العاطفي، والذكاء الحيوي، وموجبات الإبداع، والقدرة على الصبر وتحمل الشدائد، كما منحهم ذلك القدرة على أن يكونوا سعداء، رغم تواضع الإمكانيات مقارنة بأطفال اليوم، مما جعلهم أكثر قدرة للتغلب على مخلفات الأحداث الأليمة التي قد تلم بهم.
كثيراً ما اهتم أطفال الأمس ببعض الظواهر الطبيعية التي قد لا ينتبه إليها، عادة، أطفال لم تتح لهم فرصة الاتصال بكائنات طبيعية حية أخرى، مما ساهم في تطوير حساسية أطفال الأمس نحو التغيرات والتوازنات التي أتحفتهم بها الطبيعة. فتأمل يرقة داخل شرنقة، أو زهرة تتفتح، أو ضوء الشمس مرسوماً على الماء، أو حيوانات وطيور تنط وتتراقص وتتلاعب، أو بقرة أو شاة أو عنزة أو قطة تضع حملها، أو حمامة أو دجاجة تحضن بيضها لتخرج منه الكتاكيت، بعد حين، وهي تنبض حيوية ونشاطاً. تلك كلها ظواهر بيئية تبهر الأطفال، وتوقظ فيهم الفضول المعرفي، وتذكي قدرتهم على التعجب والإعجاب بما يحف الحياة وسحرها في كل مكان.
بينما ساح الفكر مسترجعاً أياماً قضيناها، نحن أطفال الأمس، مستمتعين بصفاء الطبيعة وسحرها، وأثناء استرجاع الأنفاس بعد جولة ركض ممتع في مراتع الصبا، تبادر إلى الذهن حال أطفالنا اليوم، وهم مشدودين، بل متشبثين إلى حد الهوس، بشاشاتهم وهواتفهم ولوحاتهم الإلكترونية، في غرف مظلمة مغلقة بين الجدران، في مواجهة قوالب مصطنعة، ينعدم فيها الذوق، وتنتفي فيها فائدة الاحتكاك بالطبيعة، وهي مدعاة لتقليص حدة النظر، وإيذاء الذاكرة، ورفع منسوب الإدمان، والحد من رغبة الاستمتاع بحيوية الفضاءات الرحبة وتنوعها وصفائها.
حال أطفالنا اليوم يشي بالاعتقاد بأنهم لم ينالوا حظهم، بل حقهم في اللعب والحركة بحرية في الهواء الطلق وفي الطبيعة. وذلك بفعل الخوف والإحساس الاجتماعي العام بالخطر الذي يتهددهم، والحماية الزائدة التي يحفهم بها آباؤهم، فتراهم ميّالين للعيش منعزلين، محبوسين في المنازل، لا يسمح لهم بالخروج منها بمفردهم، مما يجعلهم لا يتعرفون حتى على أحيائهم، ناهيك عن المناطق الطبيعية التي توجد في ضواحي مدنهم. وترتب على ذلك، أنهم كأطفال، لم يتسن لهم استيعاب ما يحيط بهم من عوالم طبيعية، زاخرة بالروعة الجمال، بكيفية أكثر تدفقاً واتساعاً، بدون فروض ولا قوالب معدة سلفاً، لا تضيف شيئاً، وإنما تضع حدوداً رادعة، لا ينتج عنها سوى كبح جماح التخييل، وترويض النفس على الرتابة التقليد، وعدم الخروج على المألوف، والقبول بالآراء والمواقف الجاهزة، بما تحمله من عادات وممارسات غريبة، تؤثر سلباً على القدرة على الإبداع والابتكار.
من هذا المنظور لم يعد لأطفال اليوم الوقت الكافي ليكونوا أطفالاً، فقد تمت سرقة طفولتهم، مما ينعكس على صحتهم النفسية والعقلية، حيث بدأنا نصادف أطفالاً محبطين، ومتوترين، وشرسين، ومندفعين، وساهين غير مبالين.
الرباط 21 فبراير 2022.

اترك رد

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

الاخبار العاجلة

نستخدم ملفات الكوكيز لنسهل عليك استخدام موقعنا الإلكتروني ونكيف المحتوى والإعلانات وفقا لمتطلباتك واحتياجاتك الخاصة، لتوفير ميزات وسائل التواصل الاجتماعية ولتحليل حركة الزيارات لدينا...لمعرفة المزيد

موافق

اكتشاف المزيد من أخبار قصراوة العالم

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading