ذ . إدريس حيدر :
كانت السماء رمادية ملبدة بالغيوم ، و يسود المدينة صمت رهيب ، و كان الناس يتحركون ببطء و في كل اتجاه ، و ريح شرقية ،تهب خفيفة و مزعجة .
إنه فصل الخريف .
فجأة رأيت تجمعا للمارة قرب المحطة الطرقية ،اقتربت من الجموع ،لأجد شابا في مقتبل العمر ،و من مهمشي المدينة و المعروف بإدمانه على الكحول ،ممددا على الأرض، و لا يحرك ساكنا .
صاح أحد الحاضرين :
” إنه ميت …” و أضاف:
“علينا بالاتصال بالجهات ذات الاختصاص من أجل اتخاذ المتعين ” .
انصرفت إلى حال سبيلي متأثرا بالنهاية الدرماتيكية لذاك الشاب الذي كنت اعرفه .
دلفت إلى إحدى الدكاكين التجارية الكبرى ،فسمعتُ أحدهم يؤكد أن شابا من المدمنين على الكحول ،عُثر عليه ميتا في إحدى الفنادق الشعبية .
و تمر ساعات الزمان بطيئة ، و يُعلنُ في كل مرة عن وفاة شاب آخر .
و كان نصيب الحي الذي ازددت و ترعرعت فيه هو قضاء شابين ،أحدهما عُثر عليه ميتا على كرسيه ،لأنه كان يبيع في آخر الليل فتاتا بالتقسيط ك: السجائر و غيرها .
كان جثة هامدة و متكئا على ظهره و على الحائط .
توالت الأخبار المزعجة و المؤلمة ،طيلة اليوم ، و التي تفيد موت شباب آخرين ،وصل عددهم إلى 21.
عمَّ حزن عميق كل المدينة ، و خرج أهل المتوفين إلى الشارع يولولون و يبكون موتاهم و يطالبون بأعلى أصواتهم بالقصاص ، من مرتكبي هذه الفاجعة .
تضاربت الأقوال و الحكايات و كثرت المزايدات ، و استعراض البطولات ، و نسي القوم ،أن هؤلاء البؤساء ،كانوا يعيشون معهم و بجوارهم،و لم يكونوا يحظون بالاهتمام أو التضامن الذي يستحقونه كبشر ،بل كان التعامل معهم قاسيا باعتبارهم مزعجين.
تناقلت فيما بعد جل و سائل التواصل الإجتماعي و القنوات التلفزية و الإذاعية عبر العالم هذه الواقعة المأساوية .
و بعد مرور أيام معدودات ،دُفنت جثث أولئك المهمشين في مقبرة المدينة ،في جو من الحزن و العويل و البكاء من طرف ذويهم .
و استمرت الحياة …،و كأن شيئا لم يقع ، بل هناك من الجمهور من أصدر أحكاما قاسية في حق المتوفين .
أثَّرَ فِيَّ هذا الوضع المؤلم و العنيف ،و تساءلت ُ :
” هل المقاربة الأمنية كافية للردع و لوضع حد لمثل هذه المآسي ؟
و من المسؤول عن هذه الوضعية الكارثية ؟
و هل يكفي إبداء الحزن و الألم و الحسرة من خلال كتابات خاصة لطي هذا الملف ؟ ” .
يقينا ، أنه لو وقعت هذه الحادثة في بلد تُحْترم فيه كرامة المواطن ، لَتَمَّتْ مساءلة وزراء الحكومة و خاصة : وزراء الصحة ، الداخلية …الخ . و لَقَدَّمَ المسؤولون عن القطاعات ذات الصلة استقالاتهم.
لكن في بلادنا المكلومة ،لا قيمة فيها للفرد خاصة إذا كان مهمشا، مقصيا، مدمنا و منسيا .
علينا جميعا ( مجتمعا مدنيا ،احزابا سياسية و إطارات إجتماعية و ثقافية ) أن نتحمل مسؤولياتنا ، و نرافع من أجل القضاء على هذه الظواهر المشينة ، و ذلك بنهج الدولة لسياسة إدماجهم و إنشاء مراكز لإيوائهم و الاعتناء بهم .
يقينا أن هذه التجليات و الحالات متواجدة ايضا في الدول المتقدمة و الديمقراطية ، لكن لا يُتْرَكُ أولئك المهمشو ن لحال سبيلهم ، بل هناك سياسة معتمدة ،تحاول الدولة من خلالها إدماجهم، في حين أن ضحايا الكحول السامة بمدينة القصر الكبير ،لم يحظوا حتى ببيان رسمي ،يوضح للمواطن حقيقة ما جرى .
إن هذه الظاهرة ،ستبقى و تدوم ،لأنها مرتبطة بجوانب نفسية ،اجتماعية ،اقتصادية و غيرها ،و لكن المقاربات الناجعة ،يجب أن ترى النور .
قضيت اليوم كله يغمرني الحزن ،و سكنتني صور بعض هؤلاء ” المشردين ” ، و أنا اتخيلهم يحتضرون بل و اسمع حشرجة موتهم و نهايتهم .