حسن بيريش
(1)
كاتبة ثرية الأفق يمتلكها التعدد،
ولا تبتغي أي عوز في الحبر.
يمشي قلمها الرشيق
راقصا في متون بياض الورق،
كما يورق اخضرارا في حواشيه.
تكتب أمينة بنونة بحواس يقظى، وبحدوس الأقاصي تكتب، وهي مفتوحة على التاريخ، ومنظورة للجغرافية. ثُمَّ تبدع في فرز الغَثِّ من السَّمِينِ، لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَها (مهمازا)، ولِمَنْ أمامها (اِسْتِمَالَة).
وهذا اللُّبُّ المستتر، في تبديه، هو من جعلني أتسلل – خفية – إلى عبير أحبار أمينة، وأنا أحمل توقي إلى تفكيك بنية أفقها الأدبي، مبتغيا بلوغ تضاعيفه النائية، وحشاشة مغايرته، لكي أقبض على ما يُمَيِّزُها عنْ سواها.
“القاعة ممتلئة عن آخرها.
ليس هناك مكان شاغر للجلوس”.
ويبدو لي، وقلمها أعلم، أن مكانها في غرفة الكتابة ظل شاغرا ينتظر قدوم يدها المعطاء. ولما قدمت، من قريب، وجدت هذا الكرسي واقفا إزاء اختلاف قلبها !
(2)
“حمام لا يشبه باقي الحمامات،
سواء في هندسته أم في منعرجاته، ومداخله،
وتعدد فضاءاته التي يفضي واحد منها إلى آخر.
وهناك (دكات) ونوافذ مغلقة، وشموع موقدة،
ورائحة الحناء تعبق في المكان.
وهناك نسوة وفتيات أسدلن شعورهن،
وأخريات متمسحات بهاته الدكة أو تلك،
كل دكة تمثل مقام أحد ملوك الجان:
سيدي ميمون، الباشا حمو، للا ميرة،
وغيرهم من ملوك الجان الذين يتم استحضارهم
في ليلة جيلالة أو كناوة”.
يستهويها ذاك الطِّيب الٱتي من أرجاء الماضي، حد أنها تحث خطى قلمها نحو منابعه الثرة، لكي تقبض على المِسْك، وتعيد نثر روائعه في صبيب حاضرنا. وتغوص، عميقا، في لُبّ ذاكرة المتن الشفاهي، حد أننا نخشى عليها من الغرق في هوامشه.
بيد أنها تصارع الأمواج، وتخرج علينا من القيعان وفي يديها يلمع اللُّؤلؤ، ويضيء المَرْجان.
(3)
إن جُبْلة نصها تحتوي على بعد أنتروبولجي مضمر في بروزه، يستكن في أنسجة نصوصها السردية، كما يحيا داخل خطاب الكتابة، وخارج ضمائر الحكاية. استدعاء تيمة الغرابة وربطها بالمألوف، هنا تكمن يفاعة نصوص سردياتها.
“تابعنا المسير.
وما هي إلا خطوات معدودة حتى كانت
الجدران الخلفية للمسجد الأعظم، تظهر لنا.
وبينما كنا نسير بمحاذاتها،
عرجنا على درب كتب على مدخله:
(درب سيدي ميمون)،
قال مرافقنا:
“ها نحن في حضرة أحد ملوك الجان”…”.
عوالم مسكونة بالمنفلت. ومأهولة بما وراء الظاهر. وتمتح من حوادث تسائل الغيب في معلومه، وتختار له صوغا يعكس ما يضمره من معيش يتأجج أسفل الواقع.
“وعند مغادرتي للحمام وضعت في يد الطيابة
ورقة نقدية أخذتها دون أن تنظر إليها،
فيما كانت نظراتها مصوبة نحوي
وكأنها تقرأ أثر الزيارة.
أثناء مغادرتي سمعتها تردد:
لتنفعك الزيارة يا بنتي…”.
(4)
“وهنا خيل إلي
كأنني سمعت دقات طبول
وصنجات كناوة، منبعثة
من أحد الأركان، فانتابتني
قشعريرة ملأتني رغبة
في مغادرة المكان”.
خالص حرفها وخياره، نَفْسُه وحقيقته، يكمنان في تُراث كلم
وُضَّاء، جُبْلَته بحث شغوف عن نفائس الحكايا. ورهان وارف
لصوغ آيَة شفوفها. واختبار لتقاطع ما مضى وما سيهل. كل ذلك تحرسه رؤية غميسة للنصِّ، باعتباره بؤرة لنصوص ٱخر بلا تخوم، تلتقي فيها أزمنة، وتمتح منها أمكنة.
“انتابني شعور غريب،
وكأنني في عالم آخر،
أو أنني سافرت في الزمن نحو
ماض سحيق، يفترض الفكر الخرافي
أنه كان فيه هؤلاء الملوك
يتدبرون الشأن اليومي،
ولا تزال آثارهم وقوتهم الخفية
تتحكم في مصائر الناس”.
هي مرويات طازجة، من عمق المعيش الشعبي تأتي، وهدفها تبيان التبدلات التي طرأت على واقع لا يني يحيل على تلك المرجعية التي فيها تخلق، وعبرها استفحل.
(5)
“للا الباتول تتقن إعداد القديد،
تملحه وتضيف إليه خلطة من البهارات
لا يعرف أحد مكوناتها، وتدهن بها شرائط اللحم،
وتتركه ليرقد ويتشبع بالخلطة،
ثم تصعد إلى السطح، وتبدأ عملية نشر القديد
على سلك، بعد أن نظفته وأزالت ما علق به،
مصوبة نظرها نحو الأسطح الأخرى”.
ثمة أبعاد سيرية، كثيرة ومتعددة، تسم أفق الصوغ القصصي عند أمينة بنونة. لا تبدأ، فقط، بالإحالة على تقاليد تكاد تندثر من صفحة الواقع، ولا تنتهي، فقط، باستدعاء الرموز الشعبية المثقلة بمادة خصبة للكتابة السردية.
“تنطلق النسوة بفتل الكسكس،
وأخريات يتعهدنه بالتبخير.
للا الباتول انبرت تضع القديدات
في قدر واسع، انبعثت منه
رائحة تداعب خياشيم كل من مر
بجوار دارها، وربما امتدت الرائحة
إلى الدروب الأخرى”.
ولكم خصيبة هي نصوصها، تلك التي تعيد إنتاج العلاىق بين ما انصرم داخل مجتمع متحول، وبين ما هو رهين التشكلات داخل فضاء الكتابة.
(6)
على صعيد اللغة، تنحو الكاتبة / الساردة باتجاه أسلوب يتمَيّزُ بتركيزه على البعد الرمزي للنص. دون أن ينشغل بتنميق اللغة والعلو بشاعريتها. باعتبار أن الفكرة التي يتأسس عليها النص تخطف ضوء التلقي بمعزل عن “فتوحات لغوية”.
“حين جعلت شرائط القديد تأخذ نصيبها
من شمس الخريف،
امتد بصر للا الباتول إلى الأسطح البعيدة،
ملاحظة أن بعض جاراتها لم ينشرن قديداتهن بعد.
ثم نزلت وهي تردد على مسمع من زوجها،
إن شمس الخريف هي الأنسب لتجفيف القديد،
شرط أن يسحب منها بعد ٱذان العصر مباشرة،
فأومأ لها زوجها برأسه يوافقها..”.
إنها يفاعة البلاغة، هذه التي تسرد الوقائع بمهارة، وتلج بلغتها دواخل المتلقي، عبر صوغ ٱسر في بساطته، فصيح في أفاقه التعبيرية، ويانع في دقة وصفه.
سليلة قصر عامر بالنجابة،
السَّمِين في صحائف كتاباتها الثرية،
أكثر من أن يحصيه قلمي.
في منأى عن كل ضوء، تكتب هذه المبدعة، لا يعنيها سوى أن تبلغ ضفاف حبرها، كي يكون شراع يراعها في مستوى الرياح التي تهب من جهة القلب، وتمارس تعديلا على الحرف.