ذة : سمية نخشى
ألقي بها في الحديقة الواسعة للبيت الكبير المجاور لمسكني، و ذلك يوم اصطحبتها صاحبتها التي أرادت التخلص منها بطريقة رحيمة، لقد اشفقت عليها من الشارع، فحملتها لبيت أهل صديقتها و طلبت منهم الاحتفاظ بها إلى حين عودتها من السفر، لكنه في الحقيقة كان مجرد ادعاء تتنصل به من عبئها. فهم الاهل غرضها، و لم يمانعوا ، فالحديقة واسعة ، و تؤمها بعض القطط. لم تمكث بذلك المكان، بل غادرته لترابط ببابي . كانت صغيرة، بيضاء اللون، جميلة المظهر و يزين عنقها شريط احمر سرعان ما اختفى.
أحببتها منذ الوهلة الاولى و احبتني، أو ربما أحبت اعتنائي بها، لتنضاف للقط الأسود الذي لا يبرح عتبة منزلي الا لماما ثم يعود إليه ثانية. هذا الذي استقر بالحي منذ أزيد من سنة، و اسميناه، انا و جيراني ” باكيرا ” على اسم الفهد الأسود في السلسلة الكارتونية الشهيرة ” ماوكلي “.
تعلقت بهذين الكائنين لدرجة أنني ابكي لو غابا عني، و أسرع للبحث عنهما، و لا اكف عن مناداتهما عند كل حين لاطعامهما و الاعتناء بهما، لعنت نفسي، لعنت شدة الارتباط عندي بالاشخاص، بالأماكن و بالاشياء، كما تذمرت من شغفي بهذه الكائنات.
انا ، لم اختر لها اسما و اناديها ” مشيشة ” ، و هي تتربص طوال الوقت ببابي لتتسلل و تدخل المنزل متى سنحت لها الفرصة، أتركها تتجول قليلا داخله، ثم اطلب منها المغادرة فتفعل . ما لبثت الا فترة وجيزة حتى حملت، فهي مقيمة في الشارع ، ووضعت أربع هررة بألوان مختلفة داخل المكان الذي سبق و هيأناه لها، انا و جاري ، الشاب الكريم . فانا لا استطيع استضافتها عندي نظرا للحساسية المفرطة التي أعاني منها، و لو أنني تألمت كثيرا و كاد قلبي يتفطر و انا الاحظ اصرارها على الدخول إلى منزلي حين أتاها المخاض . حدث هذا منذ ثلاثة أشهر، و بالضبط شهر نونبر المنصرم، كان الجو باردا، و كنت يومها مصابة بداء كورونا اللعين الذي لم تمنعني أعراضه من مغادرة فراشي و الخروج في عتمة الليل يوميا للاطمئنان على الصغار الذين عجز أحدهم و كان اضعفهم ، ذو اللون الاسود ، عن مقاومة لسعات البرد القارس ليلا، فلفظ أنفاسه حين لفظته الحياة و لم يكتب له عيشها .
حينها قام جاري بمبادرة طيبة اثلجت صدري و انزلت عليه السكينة و الطمأنينة، فقد رحب بالقطة و صغارها داخل محله التجاري الكبير.
شكرته و فرحت كثيرا بذلك، ثم واظبنا على اطعامهم و الاهتمام بهم، و بدأ الصغار يكبرون، غادروا المكان الذي رأت أعينهم النور داخله ، و كانت سعادتي عارمة و انا ارقب شقاوتهم ، و هم يلعبون و يتنططون، و صار من طقوسي اليومية ، أن ازورهم عند الساعة السادسة مساءا، و هو موعد إغلاق المحل التجاري ، لألاعبهم ، اطعمهم و استمد كمية طاقة إيجابية تنبعث داخلي ، ما وجدت لهانظيرا في مصدر آخر.
بدأت الهريرات تكبر و بلغت شهرها الثالث، فرفضت الوصاية التي فرضناها عليها إذ كنا نمنعها من مغادرة المكان خوفا عليها من خطر قادم : من المارة ، زبناء المحل أو السيارات، و ذكرني هذا بالمثال الذي أورده الفيلسوف ” كانط” ، و هو ينتقد مبدأ الوصاية باعتبارها قصورا يتحول الى حالة نفسية قاهرة لصاحبه ، و يدعو الناس للخروج للأنوار و إعمال العقل ، مثال المرأة التي تمنع ابنها من النزول من العربة خوفا عليه من الوقوع ، و طبعا لن يتعلم المشي أبدا و سيصبح عاجزا.
أدركت بوضوح أن قبول الوصاية و الإذعان لها هو سلوك غير طبيعي بالمرة، ، لا يقبله و يقدم عليه الا الجبناء، الخانعين من الأفراد، الجماعات أو الدول، و حتى القطط ترفضه. ، فللحياة مغناطيسها و للعالم جاذبيته .
خرج الهر، الرمادي الغامق ، لعب كثيرا أمام بيتي ، حاولت إرجاعه إلى مكانه ، لكنه تمنع و كان يعود ثانية للشارع. في المساء ،لم يتبق في المحل سوى هرين ، فقد اختفى الاول. بحثنا عنه في كل مكان قريب ، لكن دون جدوى ، تألمت كثيرا و بت ليلتي افكر في الرضيع الذي مازال يعانق ثدي أمه. بعد يومين ، جاءت سيدة ، و أخبرت المساعد في المحل التجاري ، أن ابنها الصغير أخذ هريرا أعجبه دون إذن منها و انه يوجد عندها بالبيت.ارتحت لذلك ، حمدت الله كثيرا، و تيقنت انه يومها خرج لقدره، أو أن قدره أتى اليه طفلا صغيرا أحبه، فلم يتردد في الاستيلاء عليه.
بعد أيام قليلة ، ، خرج الثاني ، الرمادي الفاتح، حاولت أيضا إرجاعه إلى مكانه، فلم أفلح. كان يلعب و يتنطط و يهرب مني ليختبىء تحت السيارات المركونة في الحي . لم يأت المساء الا و قد اختفى ، لكن هذه المرة لا أحد منا و إلى اليوم يعرف اي قدر ساقه اليه أو ركض هو نحوه.
بحثت القطة كثيرا عن صغيرها و هي تموء، و كان الحزن الذي شاركتها إياه باديا في عينيها، اعتصر الألم قلبي، و انا أجهل مصيره، و كل ما أعرفه أن المجهول إلتهمه ، و أن سهام القدر قد نفذت.
و اليوم، لم يتبق في المحل التجاري، و في المكان الذي كان مهيأ لهم جميعهم سوى الهريرة الشقراء النشيطة التي منعناها تماما من الخروج حبا فيها و خوفا عليها ، و لا أدري إلى متى ستستسلم للوصاية، و تذعن للحصار، فلا شك أن متاهة الحياة ستناديها، و انها لن تقاوم بريقها و حتما ستسير نحو ” المكتوب ” و سترشقها شظاياه .
مثل اطفالنا تماما، نودعهم قلوبنا، و نتمنى لو نحميهم داخل أعيننا و نستودعهم ربنا، لكنهم في خضم الحياة يعيشون حكاياهم، و ينسجون خيوط مصائرهم التي تداخلت مع إرادة الآخرين و اختياراتهم.
هي قصة كائن حي ، استضافه العالم دون رغبته أو ارادته، لم يختر بدايته و قد يختار نهايته، يخوض تجربته الوجودية بين وجود و عدم، فرح و شقاء ،انتصار و إخفاق…..
و في الاخير يسلم امره لله مرددا ” كل شيء بقدر ” و مجاهرا ” المكتوب ما منو هروب “.
في 31\01\2022