شيء من الهلوسة “مكتوب “

2 فبراير 2022

ذة : سمية نخشى

ألقي بها في الحديقة الواسعة للبيت الكبير المجاور لمسكني، و ذلك يوم اصطحبتها صاحبتها التي أرادت التخلص منها بطريقة رحيمة، لقد اشفقت عليها من الشارع، فحملتها لبيت أهل صديقتها و طلبت منهم الاحتفاظ بها إلى حين عودتها من السفر، لكنه في الحقيقة كان مجرد ادعاء تتنصل به من عبئها. فهم الاهل غرضها، و لم يمانعوا ، فالحديقة واسعة ، و تؤمها بعض القطط. لم تمكث بذلك المكان، بل غادرته لترابط ببابي . كانت صغيرة، بيضاء اللون، جميلة المظهر و يزين عنقها شريط احمر سرعان ما اختفى.
أحببتها منذ الوهلة الاولى و احبتني، أو ربما أحبت اعتنائي بها، لتنضاف للقط الأسود الذي لا يبرح عتبة منزلي الا لماما ثم يعود إليه ثانية. هذا الذي استقر بالحي منذ أزيد من سنة، و اسميناه، انا و جيراني ” باكيرا ” على اسم الفهد الأسود في السلسلة الكارتونية الشهيرة ” ماوكلي “.
تعلقت بهذين الكائنين لدرجة أنني ابكي لو غابا عني، و أسرع للبحث عنهما، و لا اكف عن مناداتهما عند كل حين لاطعامهما و الاعتناء بهما، لعنت نفسي، لعنت شدة الارتباط عندي بالاشخاص، بالأماكن و بالاشياء، كما تذمرت من شغفي بهذه الكائنات.
انا ، لم اختر لها اسما و اناديها ” مشيشة ” ، و هي تتربص طوال الوقت ببابي لتتسلل و تدخل المنزل متى سنحت لها الفرصة، أتركها تتجول قليلا داخله، ثم اطلب منها المغادرة فتفعل . ما لبثت الا فترة وجيزة حتى حملت، فهي مقيمة في الشارع ، ووضعت أربع هررة بألوان مختلفة داخل المكان الذي سبق و هيأناه لها، انا و جاري ، الشاب الكريم . فانا لا استطيع استضافتها عندي نظرا للحساسية المفرطة التي أعاني منها، و لو أنني تألمت كثيرا و كاد قلبي يتفطر و انا الاحظ اصرارها على الدخول إلى منزلي حين أتاها المخاض . حدث هذا منذ ثلاثة أشهر، و بالضبط شهر نونبر المنصرم، كان الجو باردا، و كنت يومها مصابة بداء كورونا اللعين الذي لم تمنعني أعراضه من مغادرة فراشي و الخروج في عتمة الليل يوميا للاطمئنان على الصغار الذين عجز أحدهم و كان اضعفهم ، ذو اللون الاسود ، عن مقاومة لسعات البرد القارس ليلا، فلفظ أنفاسه حين لفظته الحياة و لم يكتب له عيشها .
حينها قام جاري بمبادرة طيبة اثلجت صدري و انزلت عليه السكينة و الطمأنينة، فقد رحب بالقطة و صغارها داخل محله التجاري الكبير.
شكرته و فرحت كثيرا بذلك، ثم واظبنا على اطعامهم و الاهتمام بهم، و بدأ الصغار يكبرون، غادروا المكان الذي رأت أعينهم النور داخله ، و كانت سعادتي عارمة و انا ارقب شقاوتهم ، و هم يلعبون و يتنططون، و صار من طقوسي اليومية ، أن ازورهم عند الساعة السادسة مساءا، و هو موعد إغلاق المحل التجاري ، لألاعبهم ، اطعمهم و استمد كمية طاقة إيجابية تنبعث داخلي ، ما وجدت لهانظيرا في مصدر آخر.
بدأت الهريرات تكبر و بلغت شهرها الثالث، فرفضت الوصاية التي فرضناها عليها إذ كنا نمنعها من مغادرة المكان خوفا عليها من خطر قادم : من المارة ، زبناء المحل أو السيارات، و ذكرني هذا بالمثال الذي أورده الفيلسوف ” كانط” ، و هو ينتقد مبدأ الوصاية باعتبارها قصورا يتحول الى حالة نفسية قاهرة لصاحبه ، و يدعو الناس للخروج للأنوار و إعمال العقل ، مثال المرأة التي تمنع ابنها من النزول من العربة خوفا عليه من الوقوع ، و طبعا لن يتعلم المشي أبدا و سيصبح عاجزا.
أدركت بوضوح أن قبول الوصاية و الإذعان لها هو سلوك غير طبيعي بالمرة، ، لا يقبله و يقدم عليه الا الجبناء، الخانعين من الأفراد، الجماعات أو الدول، و حتى القطط ترفضه. ، فللحياة مغناطيسها و للعالم جاذبيته .
خرج الهر، الرمادي الغامق ، لعب كثيرا أمام بيتي ، حاولت إرجاعه إلى مكانه ، لكنه تمنع و كان يعود ثانية للشارع. في المساء ،لم يتبق في المحل سوى هرين ، فقد اختفى الاول. بحثنا عنه في كل مكان قريب ، لكن دون جدوى ، تألمت كثيرا و بت ليلتي افكر في الرضيع الذي مازال يعانق ثدي أمه. بعد يومين ، جاءت سيدة ، و أخبرت المساعد في المحل التجاري ، أن ابنها الصغير أخذ هريرا أعجبه دون إذن منها و انه يوجد عندها بالبيت.ارتحت لذلك ، حمدت الله كثيرا، و تيقنت انه يومها خرج لقدره، أو أن قدره أتى اليه طفلا صغيرا أحبه، فلم يتردد في الاستيلاء عليه.
بعد أيام قليلة ، ، خرج الثاني ، الرمادي الفاتح، حاولت أيضا إرجاعه إلى مكانه، فلم أفلح. كان يلعب و يتنطط و يهرب مني ليختبىء تحت السيارات المركونة في الحي . لم يأت المساء الا و قد اختفى ، لكن هذه المرة لا أحد منا و إلى اليوم يعرف اي قدر ساقه اليه أو ركض هو نحوه.
بحثت القطة كثيرا عن صغيرها و هي تموء، و كان الحزن الذي شاركتها إياه باديا في عينيها، اعتصر الألم قلبي، و انا أجهل مصيره، و كل ما أعرفه أن المجهول إلتهمه ، و أن سهام القدر قد نفذت.
و اليوم، لم يتبق في المحل التجاري، و في المكان الذي كان مهيأ لهم جميعهم سوى الهريرة الشقراء النشيطة التي منعناها تماما من الخروج حبا فيها و خوفا عليها ، و لا أدري إلى متى ستستسلم للوصاية، و تذعن للحصار، فلا شك أن متاهة الحياة ستناديها، و انها لن تقاوم بريقها و حتما ستسير نحو ” المكتوب ” و سترشقها شظاياه .
مثل اطفالنا تماما، نودعهم قلوبنا، و نتمنى لو نحميهم داخل أعيننا و نستودعهم ربنا، لكنهم في خضم الحياة يعيشون حكاياهم، و ينسجون خيوط مصائرهم التي تداخلت مع إرادة الآخرين و اختياراتهم.
هي قصة كائن حي ، استضافه العالم دون رغبته أو ارادته، لم يختر بدايته و قد يختار نهايته، يخوض تجربته الوجودية بين وجود و عدم، فرح و شقاء ،انتصار و إخفاق…..
و في الاخير يسلم امره لله مرددا ” كل شيء بقدر ” و مجاهرا ” المكتوب ما منو هروب “.

في 31\01\2022

اترك رد

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

الاخبار العاجلة

نستخدم ملفات الكوكيز لنسهل عليك استخدام موقعنا الإلكتروني ونكيف المحتوى والإعلانات وفقا لمتطلباتك واحتياجاتك الخاصة، لتوفير ميزات وسائل التواصل الاجتماعية ولتحليل حركة الزيارات لدينا...لمعرفة المزيد

موافق

اكتشاف المزيد من أخبار قصراوة العالم

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading