الخليل القدميري
الكل صامت في المدينة. كأنه صمت الموتى، يصعب التمييز بين صمت الشارع وصمت المقابر، هدوء تام لأمر هام. وصل الصمت إلى المدينة كما تصل الرائحة لتحط على أسطح الأشياء وتتسرب إلى دواخلها كالظل المختلس. أرفع رأسي لكي يتسرب الصمت إلى أعماقي. أحافظ على وضعيتي كما هي، لكي يبلغ الصمت مداه بداخلي. لكي يتسرب كما يتسرب الدم في العروق ما دمت حيا. مجرى هذا الصمت في الجسم، كمجرى التراب والماء والهواء في دروب المدينة. إنه صمت يعلو في صمته حتى يكاد أن يُسمع. مثله في ذلك مثل ضجيج ينتشر وهو واجم في ذاكرة النسيان.
يتخذ الصمت أشكالاً عديدة، أشكالاً جديدة، كحال الدخان حين يخرج من المداخن، صوت الدخان في رائحته. إنه صمت جديد. إنه دخان متجدد، بل أدخنة طائرة ومتنوعة، تخرج من مداخن المنشآت لتكون دخانا وعدة أدخنة، في نفس الوقت، تتعدد أشكالها وتختلف ألوانها. كذلك الصمت يتضاعف مثل الخلايا، بطريقة يصعب التحكم فيها، يختبئ وراء اللاشيئ، ليكون شيئاً واحداً ومتعدداً في آن واحد.
يتسرب الضوء من خلال أغصان الشجر، راسياً فوقها. تظهر ظلال الأغصان على سديم الأرض الجافة؛ تجثو الأرض الجافة على ظهرها، وتنظر إلى سماء مبتلة بمياه غريبة، تجعل كل شيئ جديداً وغير مفهوم.
شرعت في سير حثيث، كما لو كنت مدفوعاً بنداء لا يقاوم. أرى أن الهواء يلمس الشجيرات بلسانه المتورم، فتحدث هباته أثرها على شعري، وتظهر أخاديد مستقيمة على فروة رأسي المتوارية عادة عن الأنظار.
من أعلى التل وجهت عينيّ الناعستين في اتجاه المدينة. يبدو لي، لأول وهلة، أن المدينة تحتضر. لا، بل تتحلل، فتبدو المدينة شبحا. تصورتها عفنة تنخرها الديدان التي تفسح لي الطريق، كما تفسح الجرذان طريقها تحت الأرض. بدأتُ الهبوط من التل بخطى وئيدة، لا تترك أثراً. توقفت بعد لحظات، لأرفع الغشاوة عن عينيّ، وتعود إلي رؤيتي الواضحة للمدينة. تبدو المدينة كصدر أنثى، لكن بلا نهد، إنها جمجمة بثغرات ثلاث فارغة، يتلاعب بها صدى الصمت الذي يحدثه الموت عندما يحيط بالأشياء. تبدو المدينة هشة، كأنها من زجاج. تبدو راسية، صامتة. ربما تتهشم المدينة فوق رؤوس ساكنيها، أو تكاد.
أعود للمشي من جديد. شيئا فشيئا، يعود المنحنى غير المنحنى، وتبدو الأرض مستوية، ويظهر العشب. تنحسر الأرض تدريجيا عن قار رمادي وتنظر إلي البنايات، بنوافذها المغبرة والمنغلقة. كلما توغلت في المدينة، تزداد حدة الصمت بي فتكاً.
من الغريب أن أشعر بكل هذا الصمت في المدينة، لأن الصمت تاريخياً يبتعد عن المدينة. لقد انفصل عنها من زمان، والآن، عاد إليها، وأقام أعشاشه فيها، كالطيور. نام الصمت نوماً ثقيلاً حول هذا المدى من البنايات والعمارات والشوارع والساحات والحدائق والمنتزهات.
سكن الليل فارتفع صوت الصمت عالياً، منوهاً بفتوحات فارس المدينة، سليل الشجعان، ضحل المعنى، فقير اللسان.
القصر الكبير 3 يناير 2020 .