…العودة للعيش في بلدتي الأصلية أصبحت من المستحيل

30 ديسمبر 2021

الفنان : محمد الرايس

في كل ذكرى من يوم ميلادي حيث رأيت النور لأول مرة بالمدينة العتيقة بالقصر الكبير ، حي النيارين زقاق الزاوية التيجانية ، كانت تحكي لي أمي يومها فتحت عيني لأول مرة صرخت بقوة وبكيت كثيرا يوم إزديادي . كانت وقتها مدينة القصر الكبير قد عرفت إبان عقد الستينات أكبر فيضانات عام 1963 … وفي كل ذكرى من ميلادي أسترجع كل الذكريات الحلوة والمرة التي عشتها عبر طفولتي وشبابي ، بالداخل و خارج الوطن ، وترحالي وهيامي … وكل ما مررت به في العديد من المحطات التي قضيتها في حياتي , ومن بينها حكاية غريبة عشتها بمترو الأنفاق بباريس ، فترة عقد منتصف الثمانينات أواخر القرن العشرين ومازالت تسكن كياني ,وترافقني كالسراب كلما تذكرت تلك اللحظات الحرجة من العمر… ورغم كل المعاناة كانت أجمل مرحلة قضيتها في حياتي ، وفي مرحلة الشباب يومها كنت حرا طليقا وصامدا في وجه كل العقبات ، ومتحررا ومتمردا في صمت ضد كل شيء لا يرتاح له مزاجي ، و حيث يومها كنت ما زلت أتابع دراستي العليا الفنية التشكيلية بمدينة ديجون , كنت وقتها دوما أعشق السفر إلى باريس الساحرة بجمالها المعماري الفريد وتعدد ثقافتها الإنسانية الكونية ، ومتاحفها التاريخية الكلاسيكية والحديثة ، والمعاصرة ، ومن كثرة عشقي لها كنت من حين لأخر أقصدها وأتردد على كل أروقة الفن التشكيلي الراقية ومعالمها الثقافية والفنية ، لكن لسوء الحظ كانت ظروفي صعبة ومواردي المادية المحدوده ، تدفعني للبحث بأية وسيلة عن دخل مادي ، حيث كنت أتحول لبائع متجول للورود والزهور ، أقدمه للعشاق والمحبين والسواح المغرمين، مبتسما في وجوههم علهم يشفقون عن حالتي المزرية, ويمنحوني بعض الفرنكات عملة فرنسا في ذاك الفترة الزمنية الجميلة، حيث لم يكن زمنها وجود للعملة الأوروبية الموحدة(الأورو)كما هوالحال اليوم،وبالرغم أني كنت فعلاً أتوصل بمنحة دراسية من مصلحة التعليم العالي للوزارة التربية الوطنية المغربية، لكنها كانت عبارة عن صدقة لا تغني و لاتسمن من جوع ، وبالرغم من ذلك لا ننكر إيجابيتها حيث كنا أقدمها كوثيقة رسمية للأمن الوطني الفرنسي Préfecture de Dijon (Côte-d’Or) قصد تجديد إقامتي والحصول على بطاقة الإقامة القانونية وإلا يكون مصيري الطرد من التراب الفرنسي ، كان المبلغ الزهيد الذي تبعث به لنا سفارة المملكة المغربية بباريس شيك 🏦 بنكي عبر الوكالات الجهوية والمحلية للشركة العامة الفرنسيه للأبناك ، وبتعاون مع وكالة البنك المغربي للتجارة الخارجية بباريس ، وإن صح التعبير كانت محنة دراسية لا تغني ولا تسمن من جوع ، وليست منحة من أجل الدراسة بالمفهوم الصحيح ، وكان في نفس الوقت طالب بحريني هو كذلك يتابع دراسته الفنية معنا بنفس المعهد الفني ، كان يتوصل هذا الطالب بمنحة دراسية تفوق مليون ونصف سنتيم شهريا ، وكانت لجنة تراقبه من بلاده الأصلية بالملحق الثقافي لسفارة البحرين بباريس ، بحيث يقمن بزيارته بالمدرسةالوطنية العليا للفن التي كان يحضر فيها مشروعه الفني وكذلك من أجل معرفة ظروفه الدراسية ، أما نحن المغاربة كنانتوصل بمساعدة مادية جد شحيحة لا تتعدى ألف وخمسمائة درهم شهريا. ولا أحد يهتم بنا ويراقبنا ( شكون داها فيك يالبيصارة نهار العيد ) كانت منحتنا الدراسية لا تكفي ولو لتسديد كراء بيت صغير بحي جامعي أو استوديو بإقامة عمال وطلبة، وتفاقم الوضع بعدما وصل حزب اليمين بزعامة جاك شيراك للحكم ، حيث سيثم حرمان غالبية الطلبة الأجانب من أي مساعدة إضافية وتعويضهم عن السكن التي كانت تقدمها لنا حكومة فرانسو ميتران الإشتراكيةاليسارية في ذلك الفترة ، وكان وزير الثقافة والتربية آنذاك ، هو جاك لونغ الذي هواليوم رئيس معهد العالم العربي بباريس ، و كالعادة ذات يوم وأنا أتجول كبائع جوال للزهور والورود للمحبين والمغرمين والمارة والسواح ، وحيدا تحت الممرات الأرضية بميترو الأنفاق القريب من پورط ڤرساي حيث تقام المعارض الدولية ، وبالصدفة فاجأني مدير المدرسة الوطنية العليا للفنون الجميلة بديجون التي كنت ما زلت أتابع بها دراستي، حيث صرخ مناديا إياي بإسمي ! مسيو الرايس ! ماذا تفعل هنا تبيع الورود بالميترو ،،! هل تمر بظروف مادية صعبة , فثأثر كثيراً لحالتي وظل مبتسما كعادته، وقال ياللعار كم هي صعبة حياة الطلبة الأجانب بالمهجر ، ورغم كل المعاناة يصمدون ، وواساني بكل تواضع حيث قام بدوعتي لتناول وجبة فطور صباحية (كرواسان وكافي كريم ) ، ومن حسن الحظ كانت عطلة مدرسية، وبعدها سألني أين تقضي الليل ؟ فكان جوابي … لي صديق باكستاني كان يقيم بديجون وهو الآن يقيم ضواحي باريس بمدينة أوڤيرڤيليي ، وبعدها ودعني قائلا الملتقى بديجون …كانت لحظة حرجة و لقاء يتسم بالخجل والتأثر والحزن.. وهذه نبدة قصيرة جدا من ذكرياتي بالعديد من المحطات التي عشتها والرحلات البوهيمية والمغامرات التي يصعب البوح بكل أسرارها وخفايها ، حيث المعاناة والصمود في وجه كل العقبات التي عشتها في كل الأماكن التي مررت بها في حياة الهجرة والشتات. فوطني الذي يسكنني اليوم هو حياتي ،أما العودة للعيش في بلدتي الأصلية فأصبحت من المستحيل بعدما قررت مصيري وبنيت أسرة وأهل أخرين … ……

اترك رد

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

Breaking News

We use cookies to personalize content and ads , to provide social media features and to analyze our traffic...Learn More

Accept

اكتشاف المزيد من أخبار قصراوة العالم

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading