الخليل القدميري :
كنت من بين المحظوظين الذين وقع عليهم الاختيار لمرافقة أمي إلى طنجة، في بداية رحلتها إلى البيت العتيق، وأنا، آنذاك، لا أتجاوز السادسة من عمري. نزلنا ضيوفاً في دار قريبتنا بحومة “دار البارود”، من الأحياء الشعبية بالمدينة العتيقة، على مقربة من الميناء. كان ذلك في بداية الخمسينات من القرن العشرين، وطنجة، آنذاك، لا زالت خاضعة للنظام الدولي.
في فترة انتظار إقلاع الباخرة التي رحلت أمي على متنها إلى الديار المقدسة، عشت تجربة قوية خاصة، رغم حداثة سني، حيث نشأت بيني وبين طفلة طنجوية، في عمري تقريباً، صداقة حقيقية.
أذكر أن اسم تلك الطفلة الوديعة “سميرة”، ولا أتذكر من ملامحها سوى رشاقتها ووجهها المستدير وشعرها الأشقر، كما أذكر جيداً أنها لازمتني، طيلة مقامي في طنجة، وألحت علي كثيراً، لنلعب، سوياً، جل ألعاب الصغار آنذاك.
كنا نغادر البيت إلى دروب ملتوية طويلة، نركض فيها ونمرح، ونمر في طريقنا على بائع عطور أجنبي، ينثر العطر على ملابسنا، فنحييه بحرارة. نشم روائح التوابل المنبعثة من المأكولات، تفوح في دروب المدينة القديمة، ورائحة كؤوس القهوة والشاي المنعنع، تأتي من المقاهي الشعبية، ورائحة المعروضات الجلدية بالبزارات، التي تؤمها جماعات من الأجانب، يتكلمون لغات غير لغتنا، تبدو عليهم علامات الانبهار وهم يتجولون في دروب وأزقة طنجة الضيقة.
كنا نقصد أحياناً محطة القطار والميناء، ونصعد إلى سور، يتيح لنا مشاهدة حركة إفراغ وشحن السلع في البواخر، وصعود وهبوط المسافرين، وحركات الرافعات العملاقة بأذرعها الطويلة، وتنقل الحمالين وهم يعملون بنشاط، ويجتمعون في آخر النهار، بجوار باب المرسى، ليقتسموا فيما بينهم، مبلغ العلاوات الذي يودعونها لدى أمينهم بالمرسى.
نعود إلى البيت سالميْن، تلفنا سعادة غامرة، ونندس بين الأهل والأحباب، دون أن يتفطن أحد منهم إلى أننا قضينا وقتاً طويلاً ممتعاً خارج البيت.
مرت تلك الأيام بسرعة، وبعد مغادرة الباخرة التي أقلت أمي، الميناء، عدنا إلى مدينتنا الصغيرة، دون أن أتمكن من معرفة من تكون تلك الطفلة الوديعة التي أخرجتني من قوقعتي وأدخلت البهجة إلى قلبي، بضحكها الدائم، وخفة حركاتها ورقصها، كما لو كانت حورية أو ريشة تسبح في الفضاء. وحين كنت أختلق حكايات أقصها عليها، كانت تصغي إلي باهتمام وتتفاعل مع نبرات صوتي، ويزداد، حينها، بريق براءتها، كلما تسلل ضوء المساء، بخفة، عبر ضفيرتها الذهبية.
بعد عقود من الزمن، لم أعد أتذكر من تكون تلك الطفلة. لا شك أنها لم تكن مجرد استيهام أو كائنا أسطورياً، لأن سعادتي بمرافقتها كانت كبيرة وحقيقية. وقد آنست وحشتي وشجعتني على مغادرة البيت والاستمتاع باللعب في فضاءات مدينة ساحرة.
ما لن أنساه هو أن أهلي لم يتركوا لي فرصة لتوديع رفيقتي في طنجة، لكونهم لم يدركوا مكانتها لدي وفضلها علي، لأنهم كانوا عن ذلك غافلين، منهمكين في أمور بسيطة من هموم دنياهم.
الرباط 12 فبراير 2020