
– بقلم : لبيب المسعدي .
في مدينتي العزيزة، أكاد أجزم أننا لم نعد نقدم أنفسنا بقول: مرحبا، أنا فلان سائق سيارة أجرة أو هذه صديقتي فلانة ممرضة! لا، لم يعد ذلك كافيا على الإطلاق. لقد طَورنا لغة إجتماعية جديدة، أكثر تعقيدا وفنية!
وقد أبالغ بسخرية.. أنت لا تسأل (كيف حالك؟عندما تلتقي بأحدهم. السؤال الأول هو: في أي اتجاه تهب رياحك؟ لا تسأل عن أحوال الأولاد والعائلة، بل: مع من أنت ومع أي حزب هذه الأيام؟
لقد أصبح الانتماء السياسي هو بصمة الأصبع الاجتماعية، هو العطر الذي يعرف رائحتك قبل دخولك في نقاش.
إذا قلت: فلان شخص طيب. سيوقفك أحدهم منفعلا ليسأل: طيب؟ ومن أي فريق؟. فـالطيبة وحدها لم تعد كافية. يجب أن تكون طيبتك مصنفة ومرخصة سياسياً.
دعوة العشاء لم تعد تقتصر على الأصدقاء، بل هي عملية حسابية معقدة. يجب أن تكون هناك معادلة متوازنة بين الموالين والمعارضين والمحايدين ولمنشقين عن التيار الفلاني والمنضمين حديثا للتيار العلاني. خطأ واحد في الحساب، وقد تتحول مائدتك إلى جلسة استماع برلمانية، أو إلى ساحة معركة بالشوك والسكاكين..
حرفياً!
حتى في اختيارك للقهوة لم يعد حراً. مقهى التيار الفلاتي لا يرتاده سوى أتباعه، وإذ شوهد شخص من تحالف التغيير جالسا فيه، يتحول الأمر إلى خبر عاجل واختراق للمجال الحيوي، أو خيانة!
لقد اخترعنا ألوانا جديدة للبصريات السياسية. لم نعد نرى بعضنا بالعين المجردة، بل من خلال نظارات ملونة. هذا لونه أزرق موالي، وذاك أحمر معارض، وتلك برتقالي متردد.
في النهاية، نسينا ببساطة أننا جيران كبرنا في حي واحد، نسينا أن أطفالنا يلعبون معا في نفس الملعب، وأن أمهاتنا تتبادلن نفس وصفات الطعام. نسينا ذاكرتنا المشتركة. نسينا أن فلان الذي أختلف معه سياسياً، هو ربما نفس فلان الذي ساعدني عندما عطلت سيارتي في منتصف الليل. والعكس صحيح.
غريب كيف تحولت مدينتي إلى مسرح كبير، كل منا يمثل دور البطل في فيلمه، وحسب بطاقة الانتماء التي يحملها في جيبه. والسؤال الأهم: في نهاية هذا المسرح، من سيكون الجمهور؟ ومن سيكون الممثلون الحقيقيون؟
والخطير في الأمر أن هذه الكوميديا عادة ما تتحول إلى مأساة حقيقية. فالعلاقة التي بدأت ببراءة يمكن أن تتحول إلى عداوة شخصية عميقة، فيصبح الموالي والمعارض يتلذذان بمصائب بعضهما البعض! إذا أصابت أحدهم كارثة، ترى الطرف الآخر يحاول إخفاء ابتسامة منتشية في نفاق حقير، لكن عينيه تقولان: على الأقل ليس من صفنا.
أما الانتقائية في المناسبات الاجتماعية فهي عالم قائم بذاته. أصبحت مسألة حضور الجنازة تحليلا استراتيجياً. وكأن الموتى سيصوتون في الانتخابات القادمة!
كذلك في الأعراس، التي وللأسف لم تعد فرحة إنسانية، بل استطلاع رأي متنقل. تجد الناس يتجمعون في زوايا القاعة حسب انتماءاتهم، وكأنهم في جلسة برلمانية مصغرة. قد تعتذر عن حضور عرس بحجة ارتباط مفاجئ، لكن الجميع يعلم أن الارتباط هو أن العروس تنتمي للعائلة الخطأ سياسياً! وقد لا تتلقى أيتها دعوة للحضور أصلا.
وفي الأنشطة الثقافية، حتى حفل شعر أو معرض رسم لم يعد آمناً! تسأل قبل الذهاب: العارض من أي تيار؟ ومن سيتواجد هناك؟ لقد اخترعنا رقابة ذاتية على متعتنا الفنية!
أما الرياضة فدعوني أضحك!
عندما يتعلق الأمر بكرة القدم، تنقلب المعادلة رأسا على عقب!
في النهاية، نسينا ببساطة أننا بشر. نسينا أن الضحكة والدمعة لا تسألان عن الانتماء، وأن القلب ينبض للجميع بنفس الطريقة.
فيا أبناء مدينتي، لم لا نرتقي ونرتفع؟ فالقاع قد ازدحم!
لم لا نترك هذه الحفر التي نحفرها بأيدينا، ثم نشكو من ظلمتها؟ لم لا نعيد إلى علاقاتنا نضارتها الإنسانية الأولى، قبل أن نلطخها بألوان ليست من ألواننا؟
فلنتذكر أننا، قبل كل لون سياسي، بشر.. نتألم ونفرح ونحب. فلنترك لأفكارنا مساحتها، ولكن لنحتفل لقلوبنا بمساحتها الأوسع.
لنرفع رؤوسنا فوق سحب الخلاف، فلعلنا نرى أن الشمس تشرق على الجميع، وأن القمر يضيء للكل، وأن المدينة تتسع للجميع… إن وسعناها بأرواحنا.
ها نحن نرقص في دوامة هذه الانتماءات البائسة، نتصارع على ظل السلطة في غرفة مغلقة، ننسى أننا جميعاً نتنفس نفس الهواء الملوث، ونسير على نفس الأرصفة المتشققة.
يا لسخافتنا!
نحن من نحول الوجوه التي شاركتنا طفولتنا إلى خصوم،
ونحول جيراننا إلى أرقام في معادلة سياسية عرجاء.
نتفاخر بانتصارات وهمية، بينما نخسر إنسانيتنا الحقيقية.
إنها مهزلة وجودية أن نبحث عن هويتنا في خطاب سياسي، أن نعلق كرامتنا على حبل حزب، أن نصدق أننا أصبحنا أفضل لأن الزعيم قال ذلك!
الذاكرة أطول من فترة ولاية،
والقلب أكبر من بطاقة انتماء،
والروح أعمق من شعار انتخابي.
فلنخرج من هذا القفص الوهمي،
لنترك هذه الأقنعة التي أتلفت إنسانيتنا
ولنعيد اكتشاف تلك المساحة المقدسة حيث لا موالي ولا معارض،
بل بشر بسطاء… يخافون، يحبون، يحلمون…وربما يخطئون.
ففي النهاية، الحياة أقصر من أن نحولها إلى جلسة استماع برلمانية،
والقلب أكبر من أن نحشره في صناديق الاقتراع.
#لبيبيات