مقتطف من مذكراتي الأخيرة كفاعل جمعوي بالمغرب .

6 سبتمبر 2025
Oplus_131072

بقلم : لبيب المسعدي :

في زوايا البيوت التي صغرت، والتي لم تعد تتسع إلا لقلوب مشغولة بهموم اليوم والغد، يجلسون. يجلسون على كراس صارت تتذكر هيئاتهم أكثر مما تتذكرها الأيدي التي ربت عليها. عجزة، آباء تحولوا إلى جزر منعزلة في محيط متلاطم من الهموم، وأمهات صار صوتهن همساً يضيع بين ضجيج الحياة الحديثة.
وفي زوايا المدن، حيث يفترض أن تكون الحياة أسهل، تُكمِل الجماعات المحلية جهلَها المطبق بهذه القضية المصيرية. فالشوارع التي يفترض أن تعج بالحياة أصبحت متاهات لا ترحم عظاماً أنهكها الزمن. أين المراحيض العمومية التي يمكن لشيخ متعب أن يستخدمها دون حاجة إلى بذل جهد بطولي؟ أين الولوجيات التي تسمح لمن يعاني مشية متثاقلة أن يتحرك بكرامة دون حاجز رصيف عالٍ أو ممر ضيق؟ الإدارات العمومية، بدورها، تفتقر إلى أبسط أشكال الاستقبال الملائم: لا شبابيك مخصصة تخفف عنهم عناء الانتظار الطويل، لا مقاعد للاستراحة في الطوابير التي لا تنتهي، لا إجراءات مبسطة تراعي بطئهم في السمع أو البصر. لقد أصبحت المدينة، في عيون المسن، عدوة صامتة، متآمرة على إبعاده وإقصائه من فضاء الحياة العامة، وكأنه لم يشارك في بنائها ذات يوم.
هذه هي معضلة الخريف الديموغرافي الذي نعيشه، حيث تتحول الشيبَة من علامة وقار إلى عبء ثقيل. لقد تقلصت الأسرة المغربية، وانكمشت غرفها، وتقلص معها قلبها الاجتماعي الذي كان يتسع للجد والجدة والأعمام والأخوال. صرنا نعيش في “أسر نووية” لكنها، في حقيقتها، غير نووية بالمرة، إذ النواة تفترض تماسكا وقوة، بينما ها هي ذي تنفجر وتتشتت تحت ضغوط العصر. إنه الموت الاجتماعي الرهيب.
ويزيد الطين بلة أن الدولة تتغاضى عن مفهوم “المساعد الأسري”، ذلك البطل المجهول الذي يذوي في صمت، يضحي بترقيه الوظيفي، بعلاقاته الاجتماعية، بسلامه النفسي، من أجل رعاية من رعوه ذات يوم. إنه سجن من المشاعر الممزوجة بالواجب، لا يُرى فيه سجانه، ولا يُكرم سجينه. تضحيته غير معترف بها، لا بقانون ولا بمنحة، بل تذهب هباء في زحام الحياة.
أما الملاذ الأخير، دور المسنين، فحدث ولا حرج. هي ليست سوى مستودعات لبشر أنهكهم الزمن، تدار بأياد غير خبيرة لا حول لها ولا قوة هي ايضا، وقلوب قد تعبت من الرحمة. الغياب الشبه التام للكوادر المهنية المتخصصة في رعاية المسنين يجعل من هذه الدور مجرد أماكن لانتظار الموت، لا لاستضافة الحياة في أواخر أيامها. العاملون فيها، وإن حسنت نواياهم، فهم غالبا غير مؤهلين لفهم تعقيدات الشيخوخة الطبية والنفسية. أما عن طب الشيخوخة فالإحصائيات الرسمية تحكي عن طبيب لكل 300000 مسن.
وفي المدن، أين النوادي النهارية؟ أين تلك المساحات الآمنة التي يمكن أن تمتل بضحكاتهم وحكاياتهم، فينهضون بها قليلا عن كرسي الانتظار، وتتنفس أسرهم من هم الرعاية قليلاً؟ إنها غائبة، وكأننا نقول لهم: اختبئوا في بيوتكم حتى يأتيكم الموت.
والأكثر إيلاما هو ذلك الصرف الحكومي الهائل على دراسات وندوات ترفع فيها التقارير، وتلقى فيها الخطب، ثم تختم غالبا بتصريحات تلفزيونية تغدي آنة المدعوين. على أقصى تقدير للنتائج، تنتهي الاجتماعات الوزارية بتوصيات تذهب إلى أدراج النسيان. ملايين تصرف لمعرفة المشكلة التي يعيشها كل بيت مغربي، وكأننا ندفع لأطباء يشخصون المرض ثم يرفضون كتابة الدواء. إنها صفقة خاسرة: أموال تذروها الرياح، وشيوخ يذروهم الزمن.
هكذا نعيش في مفارقة قاسية، مجتمع يشيخ، وقلوب تتصلب، وأطراف رسمية تتغافل. كأننا ننتظر أن يحل الرحيل وحده هذه المعضلة، متناسين أن كل شيبَة هي مستقبلنا الذي ينتظرنا، وإن طال بنا العمر.

عن نفسي أقول : تعبت، تعبت جدا، وعدت أرى التعب على وجوه الأبطال الذين رافقوني و ساندوا وآمنوا بفكرة جمعية معا لفك العزلة عن المسنين.
ربما آن الأوان أن نصحو قبل أن يصبح الوحدة مصيرنا، والإهمال رفيقنا، والندم آخر ما نملك؟
جهاد خمس سنوات ونصف كان كافيا وشاملا لشرح خطر شيخوخة المجتمع. عملنا الميداني ودراستنا العملية والاجتماعية وتقاريرنا الأكاديمية، شرحت بالتدقيق الممل الواقع والأسباب والمشكلة واقترحت الحلول بل ساهمت في كتابة القوانين الخاصة بكبار السن. ولا أظن أن بإستطاعتنا تقديم أفضل من ذلك. …….
#لبيبيات

اترك رد

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

الاخبار العاجلة

نستخدم ملفات الكوكيز لنسهل عليك استخدام موقعنا الإلكتروني ونكيف المحتوى والإعلانات وفقا لمتطلباتك واحتياجاتك الخاصة، لتوفير ميزات وسائل التواصل الاجتماعية ولتحليل حركة الزيارات لدينا...لمعرفة المزيد

موافق

اكتشاف المزيد من أخبار قصراوة العالم

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading