جروح الذاكرة

17 يوليو 2025
Oplus_131072

د. عبد السلام دخان

عند مدخل شارع الأندلسية، كما يتذكره أبناء حي باب الواد، شكلت النافورة والحدائق عناصر طبيعية ذات دلالة رمزية، ارتبطت بذاكرة جماعية تراكمت عبر الزمن. أما قوس المحلة، فقد ظل في نظر سكان مدينة القصر الكبير امتدادا لرمز استعماري لا يعكس هوية المدينة، ولا يعبر عن انتماء أبنائها. وعلى النقيض من هذا التصور، ارتبط الوجدان الجمعي بفضاءات أخرى مثل المرس، وحديقة السلام، والنادي المغربي، وما يحمله من رموز ثقافية وحقوقية رفيعة، إلى جانب مكتبتي السويقة والمرينة، ومسارح كسينما بريس كالدوس، اسطوريا، المنصور. وما نسجته أساطير الطفولة حول هذه الأمكنة.
لطالما أضفت الفرق الموسيقية، كالفرقة النحاسية وفرق كناوة تحت قيادة رموز الذاكرة الفنية المحلية، وفرق الطقطوقة الجبلية، على أحياء المدينة نفسا احتفاليا مميزا، منشئة عبر أنغامها وإيقاعاتها لحظات اجتماعية عززت أواصر الجوار والانتماء. وأسست هذه العناصر لهويةٍ مشتركة، حاملة في طياتها رموزا وتجارب شعبية متجذرة في عمق الحياة اليومية للمدينة، خاصة في المجال العام. لكن مع مرور الوقت، لم يحظ هذا التراث، المادي منه والرمزي، بالعناية المؤسساتية والمدنية الكافية. فقد شهدت المدينة تهميشا تدريجيا لمعالمها الثقافية، تمثّل في إزاحة الفضاءات الرمزية وتفكيك البنى التي كانت تحتضن اللقاءات، وتؤطر الممارسات الثقافية، والاجتماعية. تعرضت الذاكرة البصرية (على امتداد المجالس الجماعية المنتخبة) لعملية طمس ممنهجة، في ظل غياب شبه كلي لأية رؤية تحمي ما تبقى من الروابط التاريخية للمكان. وما يزيد هذا الوضع استفحالا ندرة المبادرات المدنية والرسمية للدفاع عن هذا التراث أو توثيقه، حيث ظل التراث اللامادي مهمشا دون التفاتة تذكر من المؤسسات الوصية. وهذا التجاهل يعبر، في أحد وجوهه، عن افتقاد الإرادة للحفاظ على المعاني الرمزية التي تحملها الذاكرة الجماعية، وصيانة ما تبقى من مظاهر الانتماء الثقافي. حتى المقبرة التي تضم رموزا روحية وتاريخية، كمقبرة مولاي علي بوغالب، لم تسلم من يد الإهمال، في مشهد يوحي بنوع من القطيعة المتعمدة مع الماضي، وكأن ثمة إرادة لطمس المعالم التي تذكر بماض مجيد. ويبدو هذا الإهمال، في عمقه، فعلا رمزيا يعبّر عن فصل متعمد بين الساكنة وذاكرتها الجماعية، وعن تراجع عن الاعتراف بقيمة هذا التاريخ في تشكيل الهوية المحلية. لا ينبغي- في تقديري- للذاكرة، في هذا السياق، أن تنحصر في مواقع وأحياء محددة مثل الشريعة، باب الواد، ولكن ينبغي أن تمتد لتشمل أحياء أخرى مثل الباريو، المرينة، الفرفارة، وهي احياء تختزن بدورها رصيدا غنيا من التجارب الاجتماعية والخبرات المعاشة، وكل احياء القصر الكبير تستحق العناية والبحث والتوثيق.
إن اختزال المدينة في بناياتها وأسمائها الإدارية رؤيةٌ قاصرة، لأن هوية القصر الكبير تنبثق من نسيجها الاجتماعي، ومن العلاقات الإنسانية التي تشكلت في فضاءاتها اليومية، ومن السرديات التي نسجت مع الزمن وجدانا جمعيا متينا. وإحياء هذه الذاكرة يتطلب جهدا جماعيا ووعيا راسخا بأهميتها في تشكيل معالم الانتماء. فلا يُمكن الحفاظ على ما لا ندرك قيمته، ولا صيانة ما لا نعترف بأهميته. لذا، فإن العودة إلى ذاكرة الأحياء ينبغي أن تنطلق من إدماج السكان في ورشات استعادة المعنى، وإشراكهم الفعلي في حماية ما تبقى من معالم تاريخهم الحي، وتثمين تجاربهم في تلك الفضاءات التي كانت يوما ما تنبض بالحياة.

اترك رد

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

الاخبار العاجلة

نستخدم ملفات الكوكيز لنسهل عليك استخدام موقعنا الإلكتروني ونكيف المحتوى والإعلانات وفقا لمتطلباتك واحتياجاتك الخاصة، لتوفير ميزات وسائل التواصل الاجتماعية ولتحليل حركة الزيارات لدينا...لمعرفة المزيد

موافق

اكتشاف المزيد من أخبار قصراوة العالم

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading