اد: أنس الفيلالي :
لم أفجع في فقدان صديق أو شاعر كما فجعت في وفاة الشاعر نور الدين الدامون.
تعرفت على الرجل وأنا تلميذ صغير، مرتين؛ أولاهما من خلال ديوانه “الوقوف بين الأسماء”، الذي لازمتني شخوصه وتيماته الحزينة طويلاً، حيث أُعجبت بتصويره لتجربته الإنسانية في سنوات الجمر الحالكة، وبجرأته في فضح تلك التجربة من خلال رؤية شعرية شديدة الجمال. أُعجبت أكثر بوفائه للناس، خاصة البسطاء منهم، ضمن تيمة الموت التي لازمتني بدوري في دواويني الثلاثة. صرت لا أنشد إلا في مقبرة فسيحة مزدانة بالرياحين، ولا أثق إلا في عالم عظماء الموتى الذين رحلوا، ولا أمدح إلا البسطاء الذين لم ألتقِ بهم قط إلا عبر القصيدة.
أما اللقاء الثاني فكان مباشرًا، حين دبجت له إهداءً في إحدى قصائدي الأولى، التي وجدت طريقها إلى النشر بإحدى الصحف المغربية. كانت رهبة شخصه آنذاك لا تُقاوَم، لكنها سرعان ما تبددت بعد حديثه الأول الذي حمل كلمات تشجيع وإعجاب بما كتبه ذلك الطفل، قائلاً له إنه سيكون له شأن في الكتابة مع الوقت والقراءة والمثابرة. وسيعيد تلك الكلمات لاحقًا، حين أصبحنا نلتقي في بعض المناسبات، ونجلس معًا في مقهى، أو يدعوني إلى بيته ليهديني آخر دواوينه. كانت تلك لحظات كاشفة لكرم رجل عاش كريمًا حتى الرمق الأخير.
كان من الصعب عليّ تصديق كلماته؛ لأنها صادرة من هذا الرجل العظيم. ومع مرور الوقت، وتعدد اللقاءات، ازداد إعجابي به. بل إن تواضعه بلغ حدًّا جعله، بعد أن ألقيت شهادة تأبينية في حق الراحل أبي الوفاء، يقصدني بنفسه ليهنئني على التوفيق في إلقائها، ويطلب مني صورة للذكرى. كانت تلك الصورة الوحيدة التي جمعتني به، ولم تكن لي الجرأة لطلبها منه سابقًا.
لا أخفي أن المرحوم من القلائل الذين ظلّت رهبة حضورهم تلازمني، احترامًا وإعجابًا، وهي خصلة لم أحتفظ بها إلا مع قلة من الكُتّاب. فقد وجدت فيه صورة الكاتب الكبير، كما تخيلته في نصوصه وشخصه معًا، وهي صورة قلّما تتحقق؛ لأن كثيرًا ما ينكسر الحلم بمجرد لقاء الكاتب في الواقع. لكن نور الدين ظل استثناءً، بصورة حالمة تجمع بين جمال الكتابة ونبل الخُلق وتواضع الإنسان. لقد عاش تجربة تاريخية عميقة، من منطلق مبدئي صادق، ونجح في ترجمتها إلى نصوص شعرية خالدة. ولا أبالغ إذا قلت إن نور الدين الدامون كان أفضل من عبر شعريًّا عن التجربة المغربية خلال أواخر القرن العشرين.
طوبى لك، وعزائي للشعر، ولأجمل الذكريات التي عشتها وكنتَ جزءًا رئيسيًا فيها.
عزائي لأني حين التقيتك آخر مرّتين، لم أُطِل الجلوس معك، ولم أسمع بما يكفي عن ترجماتك وأشعارك القادمة، التي أخبرتني أنك تنوي نشرها. كان من المقرر أن يكون اللقاء المرتقب في مدينة العرائش، ليأخذ وقته ورحابته، لكن الله تعالى فضّل أن تسبقنا إلى الجنة، وأنا على يقين بأن الله يخصّ هؤلاء الطيبين، الذين كرّسوا حياتهم للكتابة عن البسطاء، بمنزلة خاصة. هناك، حيث لا فقر ولا تجارب مؤلمة تستنزف العمر في الكتابة عنها، سيجد شاعرنا ضالته.
عزائي أيضًا في زوجته الصالحة، وفي ولدَيه الشابّين، اللذين يشبهانه في الطيبوبة والخجل، هذا الخجل الذي بات اليوم أعزّ ما يُطلب. ما من جلسة جمعتنا إلا وتحدث فيها بفخر عن ولديه المهندسين، وكان يرى فيهما امتداد نجاحه.
عزائي للأدب المغربي، الذي فقد شاعرًا كبيرًا قلّ أن يجود الزمان بمثله. ولِمدينة القصر الكبير أن تفخر بأنها أنجبت شاعرًا في قامة المرحوم محمد الخمار الكنوني، وامتداده الوفيّ، نور الدين الدامون.