
بقلم حنان قدامة
حينما كانت الباخرة تمخر عبُاب البحر ،كانت ذكريات الماضي البعيد تمخر فكري وتعبر وجداني .
هنا تكسّرت أمواج هذا البحر المتوسّط على شاطئ أحزان الأندلسيين ،هنا التقت قطرات مائه بأمواج أحداقهم .
تراءت لخيالي الجامح صور المهجّرين وقلوبهم الباكية تشيّع ربى الأندلس ،هاربين من محاكم التّفتيش وفارّين من نار الحرّاقين .
هأنذا اليوم أسلك نفس الطّريق ،طريق مدينة المعتمد بن عبّاد “إشبيلية ”
لم اشعر بغربة في “إشبيلية “فالمدينة الضّاحكة في وجه زائريها بدّدت غربتي ووحشتي خصوصا بعد انسجامي السّريع مع “مارية” التي كانت تشاركني غرفتي والتي كانت دليلي في استكشاف سحر المدينة التي تغفو في أحضان الوادي الكبير. ا. . لا أنسى ذاك اليوم حينما قرّرنا أنا ومارية التسكّع في شوارع وأزّقة المدينة ، كانت أزهار إكليل الجبل اللّيلكية تغازل عيون السائحين وأصوات خرير المياه المُنسابة عبر السّواقي والجداول تداعب أسماع المارّين.
يوم ذاك كانت أشواقي تصرخ وتستعجلني للقاء تاريخ أجداد كانوا هنا، ولإسكات صراخ الأشواق ألححت على “مارية” بالبدء بزيارة الحيّ العربي بسانتا كروز الذي لازال عطر التّاريخ يفوح من أزقته الضّيقة السّاحرة ومن جدران منازله النّاصعة البياض وأسقفه القرميدية، تطلّعتُ إلى قصر المُورّق الملكي و الخيرالدا التي تبعث سلاما إلى الكُتبية وحسّان . عصيّة الدّمع قلت لمارية . ـــ في هذا الحيّ كان بيت اجدادي ،لم نعد نملك منه إلأ مفتاحه الذي تتوارثه أسرتي جيلا بعد جيل جيل . بابتسامة هادئة عقّبت “مارية “:ـــ أنت لا تعلمين أنّ أجدادك هم أجدادي أنا أيضا . اذن أنت موريسكية؟ انتفضتُ في وجه مارية التي قطّبت جبينها قبل أن تُوضّح: ـ أنا أندلسية من أسرة يجري في عروقها دم بني أمية أ . . .
ونحن في طريقنا إلى ضفّة الوادي الكبير حكت لي ماريّة عن أجدادها، فرارهم من محاكم التّفتيش ولجوئهم إلى جبال البشارات ورندة.
أخبرتني كيف احتال جدّها الأكبر في عدم حمل أسرته لاسم قشتالي واختياره اسم “روميرو” الذي يذكّره بإكليل الجبل الإشبيلي .
كانت أشعّة شمس المساء تُلوّن مياه الوادي الكبير بلون الذّهب ، ساد الصّمت بيننا وتركنا المجال ليغنّي الحمام وترّن الطّيور وهي تعلو أغصان شجر الصّفصاف المتكاثفة كجدائل الشعر . ا .
.
اقتربتُ من شطّ الوادي الكبير الذي يستحم فيه التاريخ لم استطع مقاومة سحره فنزعت حذائي وانا أتذكّر قول الشاعر الإسباني “خيراردو بيكو “ــ آه يا وادي اشبيلية من سيراك دون أن يُبلّل حذاءه
سرح بي خيالي الجامح، تخيّلتُ الملك الشاعر “المعتمد بن عبّاد “وهو يلتقي في ضفة الوادي بزوجته.”اعتماد” الذي جعل لها الطّيب والورد مداسا .
نال التّعب منا ونحن نتجول في الحيّ اليهودي القريب من ساحة المدينة، كانت عمارة منازله تشبه العمارة العربية ، توجّهتُ إلى مارية بالكلام ـــ هنا في الاندلس تعايشت واندمجت جميع الملل .ا
. بإيماءة من رأسها أقرّت صديقتي كلامي قبل أن تستطرد ـــ لربّما لاتعرفين أنّ إسبانيا قدّمت اعتذارا إلى يهودها وعبّر مسؤولوها عن شوقهم إليهم . استوضحتها :وماذا عن المسلمين ؟ بعثت لي ملامحها الحزينة جواب النفي : ــــ لا زلنا ننتظر ذلك ،وننتظر معه إلغاء اسبانيا لاحتفالها الباذخ بإبادة شعبها في الأندلس . . ظلّ الحوار الأندلسي يحكم حديثي مع مارية وحدها قبل أن ينتقل إلى جدّتها الطّاعنة في السّن أثناء زيارتي لها بصحبة حفيدتها في بلدتها “رندة ” أثناء عطلة أعياد الميلاد ا .
هناك في المدينة الصّخرية المعلّقة على الجبال روت لي الجدّة كيف أُجبِر المُورسكيون على التنّصر والتّعميد ؟كيف سعى القشتاليون إلى تغيير هوّيتهم ومنعهم حتّى من إغلاق منازلهم يوم الجمعة حتى لا يؤدوا صلاتها . .
لم اعد أسمع صوت الجدّة ،تعالى في سمعي صوتي وصوت الأطفال ونحن في حركات دائرية نُغنّي ونلهو بمأساة الاندلسيين : ا تكشبيلا تيولولا :
ما قتلوني ما حيوني ّ
ذيك الكأس اللي عطوني .
أبى خيالي السّارح إلاّ أن يُّريني الجنود القشتاليين راكبين” الكوتشي” قبل أن يترجّلوا عنه ليُشربوا المهجّرين الأندلسيين كؤوس الخمرو الهوان , لم ينقدني من خيالي سوى صوت “ماريا “وهي تدعوني للقيام بجولة داخل المدينة الصغيرة ا . كانت ساحاتها مكتظّة بالمحتفلين ، في إحدى الساحات بادرتني مارية :
ــ لن تصدّقي اسم هاته الساحة ،قبل أن أتفوه بالكلام فاجاتني بالقول :ــإنّها ساحة أبي البقاء.
قلت والدّهشة تعقد لساني: هل تقصدين أبا البقاء الرّندي؟ هزّت مارية رأسها وسلّمتني إلى خشوع مهيب وددت فيه
لو أُخبر شاعر رندة أنّ أزماننا قد ساءت بعده وأننّا صرنا طوائف أكثرعددا من طوائف الأندلس. دمعت عيناي وأنا أتذكر مرثيته الشّهيرة وبيتها الحزين :فاسأل بلنسية ما شأن مرسية
وأين شاطبة أم أين جيان
هاج خاطري فوجدته يردّد على استحياء من الشّاعر الكبير ابي البقاء . فاسأل حيفا ما شأن يافا . وأين ناصرة أم أين بيسان .
ودّعنا رندة بحسرة المبنى والمعنى وعدنا إلى إشبيلية قبل أن أعود أدراجي إلى موطني في العطلة الصيفية ا . .
لم ينقطع تواصلي مع “مارية” ،ظلّت الأحاديث والأحاسيس الأندلسية تجمعنا إلى أن صحوتُ ذات صباح على رنّات هاتفي ،كانت “مارية” على الخط، كان صوتها يصدح بالفرحة وهي تخبرني بتواجدها في” مراكش “بصحبة وفد أندلسي يمثل” منتدى بني أمية ” ،؛ ,بغباء سالتها ,,: : هل ستزورون ضريح المعتمد في أغمات؟ .
بضحكتها الرّقراقة أجابتني :طبعا نحن لم نأت إلاّ لزيارة قبر ملك إشبيلية
انتهت المكالمة بعد أن وعدتني “مارية “بزيارتي في مدينتي غرناطة الصغرى “شفشاون” وبعد أن رجوتُها أن تقرئ السّلام الملك” المعتمد ” والأمير” يوسف بن تاشفين ” ، وياحبذا لو تسأل كلاّ من الأسير “المعتمد ” والآسر”ابن تاشفين” ماذا حدث وماذا جرى؟ ا حنان قدامة في02/17 /2025