
ذ. أحمد الشواي
ـ الفصل الاول ـ
المشهد الثالث:
عند بزوغ الفجر، حين بدأت الأرض تستفيق على وقع خطوات الصباح الباردة، كان العجوز يتأهب للرحيل. عباءته الثقيلة التصقت بجسده المنحني، وكأنها حملٌ إضافي اعتاد على احتماله. عصاه الخشبية لم تكن مجرد أداة للاتكاء، بل بدت وكأنها قطعة من عمره، شهدت على خطواته المتعبة، وأسراره المدفونة بين طيات الزمن.
خلفه، كانت مجموعة من الماعز الصغيرة تسير بخطى غير مبالية، تعبث بالحجارة الصغيرة وتملأ السكون بصوت حوافرها الخافت. بدا المشهد كلوحة مرسومة، بسيطة لكنها مفعمة بالحياة، تُذكر كل من يراها بأن الأرض تستمر رغم أحزان ساكنيها.
على التل القريب، كان البشير يراقب العجوز بصمت. بدا كمن يحاول فك لغز شخصيته، وكأن سرًّا ما في هذا الرجل يطارد أفكاره. كان البشير شابًا ذا نظرات قلقة ووجه أنهكته الأيام رغم صغر سنه. تساءل في نفسه عن هذا العابر الذي يحمل ملامح الحكمة والرهبة. وأخيرًا، لم يتمالك نفسه. صاح بصوت ارتجفته الحيرة:
“يا عم، انتظر! ماذا يريد هؤلاء الجنود الذين يملؤون القرى؟”
توقف العجوز، واستدار ببطء. كان وجهه يحمل علامات الزمن، كخارطة محفورة على صخر. عيناه شاحبتان، لكنهما لم تكونا خاليتين من البريق. بدا كمن يحمل إجابة قديمة، قديمة جدًا. اقترب بخطوات ثقيلة، ثم قال بصوت خافت لكنه حازم:
“إنهم المستعمر يا بني… غرباء جاءوا ليسلبوا الأرض والكرامة. رجال لا يؤمنون إلا بالقوة، ولا يعرفون إلا النهب. لا تأمنهم أبدًا، ولا تدعهم يرونك. هم كالأفاعي، يلدغون بلا رحمة.”
لم يضف العجوز شيئًا. استدار ليكمل طريقه، تاركًا البشير واقفًا في مكانه، وعقله يغلي بأسئلة لم يجد لها إجابة. أشياء كثيرة أراد قولها، لكن الكلمات خانته. كل ما استطاع فعله هو مراقبة العجوز وهو يبتعد ببطء، حتى اختفى خلف أحد المنعطفات.
جلس البشير على صخرة قريبة، وقد أثقلته أفكاره. ذكريات الطفولة تدفقت إلى ذهنه كطوفان. استرجع ذلك اليوم البعيد، حين كان مجرد صبي صغير، يلهو مع أقرانه في الحقول. رأى امرأة من قريته تسير بحذر على طريق ترابي، تحمل حطبًا ثقيلًا على ظهرها، ويدها تمسك بطفليها. كانت تضحك، تمازحهما، وكأن لا شيء في العالم قادر على النيل من سعادتها.
لكن تلك اللحظة السعيدة لم تدم. جندي غريب ظهر فجأة، أوقفها بصوت آمرٍ. صرخت المرأة بحذر: “ماذا تريد؟” لكنه لم يرد. أمسك بذراعها ودفعها بعنف. الحطب سقط أرضًا، وصرخ الطفلان في فزع. المشهد مرَّ بسرعة، لكنه ظل محفورًا في ذاكرة البشير، كوشمٍ لا يمحى.
منذ ذلك اليوم، لم يعد البشير يرى العالم بنفس البراءة. الأسئلة التي كانت تغلي في داخله لم تجد إجابات شافية. لماذا جاء هؤلاء الغرباء؟ لماذا يعاملون أهل القرية بهذه القسوة؟ أسئلة نمت معه، وتغلغلت في كيانه.
مع مغيب الشمس، تمدد الليل ببطء فوق السماء. النجوم ظهرت واحدة تلو الأخرى، لكنها لم تكن رحيمة بالبشير. كانت عينه تلمع في الظلام، وكأنها تعكس شعلات من الحيرة والغضب. حاول النوم، لكنه رأى كوابيسه القديمة تعود إليه. رأى نفسه يركض في أزقة ضيقة، يلهث، وخلفه أصوات الجنود وصرير السيوف وسوطٌ يجلد الهواء.
استيقظ فزعًا مع أولى خيوط الصباح. جلس واضعًا رأسه بين يديه، يحاول أن يهدئ أنفاسه. شيء ما في داخله كان يتحرك. إحساسٌ بالظلم ممزوجٌ برغبة في الفهم.
كان يعرف شيئًا واحدًا: أن حياته لم تكن سوى شظايا من قصة أكبر، قصة وطنه وأرضه. لم يتلقَ تعليمًا رسميًا، لكنه تعلم من الحياة ومن أسرته والفقيه في الكُتّاب. قريته الصغيرة لم تكن تعرف المدارس، لكن قلوب أهلها كانت مليئة بالحكمة البسيطة. ومع ذلك، كل شيئ تغير في العام الذي زحفت فيه القوات الاستعمارية على بلده، معلنة عهد الظلم والاستبداد.
بدأت القرى تتحول إلى ساحات للصراع. الجبال، التي كانت يومًا ملاذًا آمنًا، أصبحت مخبأً للمقاومين ومطاردة بأعين المستعمر.
وقف البشير على قمة تل، يطالع الأفق البعيد. الجبال الشامخة بدت كأنها تحرس الأرض، لكنها أخفت بين طياتها ألغازًا ومخاطر. كان يعلم أن الطريق أمامه طويل، وأن رحلته لن تكون سهلة. كلمات العجوز ما زالت تدوي في عقله:
“لا تدعهم يرونك.”
كانت النجوم في السماء تشع كأنها تهديه طريقه. لكنه كان يعلم أن النجاة ليست كافية. كان عليه أن يفهم، أن يعرف من هو، ولماذا يجب أن يقاتل من أجل حريته. لم تكن رحلته مجرد هروب من الجنود، بل كانت بحثًا عن ذاته وعن معنى الكفاح.
الطريق أمامه كان طويلاً، والمفاجآت لم تبدأ بعد…
(يتبع)