بمناسبة اليوم العالمي للمدرس: “نحيب محفظتي”

4 أكتوبر 2024


—- الدكتور : محمد البدوي ——
ها أنا اليوم أبحث عن محفظتي بعد حين، لم تمسها يداي قرابة شهرين، سوداء قاتم لونها، فقد علاها الغبار فحوَّل سوادها الغامق إلى رمادي فاتح.
تحسستها ويدايا ترتجفان، وكأني لا أعلم ما يقبع داخلها.
في بداية الأمر وقفت مذهولا متأملا لعل رشدي يعود إلي ويطمئن قلبي وتعتدل نبضاته فترسو على وضعها الطبيعي لأحفظ توازني النفسي والذهني، تشجعت هذه المرة وقلت: ليكن ما يشاء القدر، وممّ عساي أخاف ؟ إنما هي مجرد كتب ودفتر وبعض جذاذات وشيء من ادوات قليلة.
أحيانا يخيل إلي أنها محفظة سوداء سواد الليل البهيم الأليل، حتى بدأت ألوم نفسي ، لماذا اخترت شراء محفظة بهذا اللون ؟ ألم يكن جديرا بي أن أختار لونا آخر أتفائل به وآمل؟
لماذا صممت على اختيار هذا السواد؟ هل هو كما يقال في عالم الازياء والعروض لون ملكي يناسب كل البدلات أو الحالات وينسجم مع كل الوضعيات والسياقات كما أخبرتني بذلك شريكة العمر؟
لماذا إذن أتردد من فتح المحفظة لأخرج ما فيها وأعيد ترتيب محتواها وقد سطع نجم موسم دراسي جديد . لم أكن أتوقع أن تضغط على مخيلتي قطعة من جلد أسود كما حدث اليوم .
صبرا أيها القارئ الكريم، لو كنت مكاني لما وسعك إلا أن تندب حظك أو تنزوي في ركن ضيق تفكر وحدك في وقاحة السياسة التعليمية، على كل حال ففي هذه المرة وجدت من السهل علي أن أنقل هضبة إلى ضفة أخرى دون أن أقوى على تحمل عبء إخراج عدَّتي وعتادي من هذه الحقيبة البكماء ؟
ربما يرى القارئ أنني قد بالغت وغاليت وقد يطالبني بالبوح فورا بما أريد !
ايها القارئ/ المدرس لا شك أنه سبق لك ان غيرت محفظتك ومعطفك وحذاءك وربما مقر عملك وسكناك لكنك لم تغير محتوى محفظتك كلية، اليوم سأخرج منها كتبا استوطنتها أربع عشرة سنة ، لكنهم حكموا بالإفراغ العاجل من غير منح أي مهلة ، وكأني اللحظة أحاول أن أخرج من محفظتي تاريخا حافلا ليس هينا ، يضمر خلفه ذكريات مع أجيال وزملاء ، سأخرج من حقيبتي ذكرياتي وأنفاسي ، ليست الكتب خير جليس وحسب وإنما تصبح بعد احتكاك طويل بها جزءا من كينونة المدرس، تبادلها مشاعر الصدق والوفاء والتقدير والإخلاص .
هذه الكتب المدرسية التي تختزل بيت جنباتها جزءا من المنهاج الدراسي الرسمي بقيت على حالها لم يطلها التغير أو التبديل وقتا طويلا حتى ظننا أنها أمرا توقيفيا لا توفيقيا فأضحت عالقة بجدار كبدي ، كنت أفتخر أنني المدرس الوحيد الذي بقي في مؤسسة وادي المخازن للتعليم الأصيل يدرس هذه المواد العظيمة الراسخة كالجبال ، كنت أحسب أني أحدُ حماة ثغر التعليم الأصيل في مؤسسة التعليم الأصيل، ولم يخطر ببالي يوما أني سأخرج مضطرا من محفظتي أهم ذكرياتي ولن أرجعها مرة ثانية إلا أن يشاء الله وتخيب مساعي من ظن سوءا ببرامج التعليم الأصيل .
أخرجت كتاب التفسير أولا أو قل كان حظه أن يكون كذلك كما هو دوما فقبلته في خضوع ووضعته على قلبي كأنني أعتذر له، وثنيت بكتاب الحديث الشريف ومسحت به على رأسي، ثم أمسكت بكتابيْ الفقه والأصول فجعلتهما عن يميني والفرائض والتوقيت عن يساري، لم أتمالك نفسي فبكيت سرا كطفل يتيم لا يرجو نفعا من صراخ أو عويل.
جعلت هذه الكتب تعيش في وئام وسلام إلى جانب بعضها كأنها توأم، وكذلك كنت أراها تنسجم وتتكامل بغض النظر عن أدوارها البيداغوجية كما كان يحلو للسيد المفتش أن يقول والذي كان يشدد على الرؤية النسقية في التخطيط والإنجاز والتقويم والمعالجة… فأنت تقدم التفسير لا يسعك إلا أن تستدل عليه بموارد معرفية من كتاب الحديث ، إذ السنة شارحة للكتاب ومبينة له ومفصلة لمجمله ومخصصة لعامَّه، ومقيدة مطلقه…
ولو شرعت في درس الحديث فلا مناص أن ترجع للكتاب فمنه المنطلق وإليه الرجعى، فهو الرؤية والاستراتيجية والمنهج والمقصد، وأصل الأصول ومفتاح الوصول، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ يقول: “ألا إنِّي أوتيتُ القرآنَ ومثلَهُ معهُ”
أمسيت كل حين أحدث نفسي هل أستطيع المواكبة من غير تلك الكتب وأجيد عملي كما كنت أحاول ؟
قبل يومين دخلت المؤسسة فشعرت باغتراب خاص لا أدري على سبيل التحديد ما مصدره، لكن المفاجأة كانت كبيرة لما أيقنت أن تلك الكتب “(الجوهرة المفقودة) وما تختزله من تاريخي المهني هي سبب الشعور الطارئ، فلم تكن مجرد أوراق صماء ولكن كانت تخفي بين صفحاتها عواطفي ومشاعري إزاء الحياة المدرسة وما يتفاعل داخلها من أنشطة. طبعا لا يعني ذلك أن علاقة أصبحت تربطني بهذه المعلمة التاريخية والصرح المجيد، لسوف أظل أحلم بالعودة كما يحلم الشعب الفلسطيني بعودته، وسوف أظل هنا صامدا أتصدى للجهل وأنشر نور المعرفة ما استطعت إلى ذلك سبيلا مدعوما بالأمل ومسلحا بالصبر واليقين مستحضرا صورا من ماض مشرق لزمرة الطلبة الحفظة لكتاب الله ، وهم ينتشرون في أرجاء الساحة، كما تنتشر النجوم مشرقة في السماء ، أرواحهم تملأ أركان المؤسسة وكأنهم حرس يجوب المنطقة ليحفظوا ببركة القرآن هذه الثانوية .
محمد البدوي بمناسبة اليوم العالمي للمدرس 4 أكتوبر 2024

 

اترك رد

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

الاخبار العاجلة

نستخدم ملفات الكوكيز لنسهل عليك استخدام موقعنا الإلكتروني ونكيف المحتوى والإعلانات وفقا لمتطلباتك واحتياجاتك الخاصة، لتوفير ميزات وسائل التواصل الاجتماعية ولتحليل حركة الزيارات لدينا...لمعرفة المزيد

موافق

اكتشاف المزيد من أخبار قصراوة العالم

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading