
بقلم الأستاذ الناقد : عبد الحميد الزفري
” إذا رأيت في غيرك جمالا ، فاعلم بأن داخلك جميل ”
جلال الدين الرومي .
وإذا غيرنا العبارة بما يقابلها فليس ضروريا أن يكون ما بداخلنا قبيحا ، لكن هل لدينا الجرأة على مكاشفة الآخرين بصدق حول إنجازاتهم إيمانا منا _ ودائما مع الصوفي الشهير جلال الدين الرومي _ بما قاله :
” إن أردنا لبصيرتنا أن تنمو فعلينا أن ندرك جيدا أن أي كائن في الكون يمكنه أن يعلمنا شيئا لا نعرفه ” .
هذه المعرفة تتجاوز ما تقذفه يوميا عبر مواقع التواصل الاجتماعي آلاف التدوينات والمقالات المتبوعة بالعديد من الأحكام المجانية الرخيصة التي لا تكرس إلا الضحالة والهشاشة والركاكة ….
في دنيا الأدب أكد العرب منذ القديم أن أردأ الأدب ماكان وسطا ، ونحن نقول أن أجمل الأدب ماكان قصوويا ، أي يذهب بنا نحو الأقاصي والتخوم البعيدة ، نرهف فيها السمع إلى الثاوي الذي لا يغفو في أعماق ذواتنا ، فإذا ما أردنا الوقوف ضد تلك المرأة الأعرابية التي ذكرها صاحب معجم ( لسان العرب ) ابن منظور تعرف بلفظة ( القمع ) ، وهي ” أن تقمع الآخر بالكلام حتى تتصاغر إليه نفسه ” ، قلنا خلافا لذلك : إن الإبداع الحق أن تحبب المتلقي بالكلام حتى يحب الآخر والحياة على نحو جديد .
إنه سفر نحو الكون ، صاحبه ملزم أن يكون رحالة دوما ، لأن الوقوف عنده رديف الموت ، وكما قال الإمام الشافعي :
سافر تجد عوضا عمن تفارقه وانصب فإن لذيذ العيش في النصب
إني رأيت وقوف الماء يفسده إن سال طاب ، وإن لم يجر لم يطب
سفر ذو وجهتين : أولا كسمولوجيا من خلال الأسطقسات الأربع في الكون :
( الماء والنار والتراب والهواء ) لمعرفة المزيد من أسرارها بغية إثراء القوة التخييلية على اعتبار أنها ” هرمونات الخيال ” كما قال عنها باشلار ، وثانيا ترحال مستمر في الذاكرة ، كما الأركيولوجي المنغمس بين مخطوطاته ، الطواف في الفضاءات الشاسعة ، منقبا عما اختزنه باطن الأرض ، ما إن يستشعر ذلك حتى ينيخ راحلته فيمسك بمعوله للحفر وقد جذبته الأعماق بعدما كانت تستهويه الآفاق ، كذلك المبدع الحق إذا ماكان معينه فياضا متجددا ، يلجأ إليه للاغتراف ، فلابد من أن يدفع بمتلقيه إلى الاعتراف ، لا اعتراف الصديق المنافق ولا الجاهل المتزلف .
كيف لا وقد امتطى صهوة المكابدة على غرار معاناة الفرزدق القائل :
” تمر علي الساعة وقلع ضرس من أضراسي أهون علي من عمل بيت من الشعر” .
منذ أمد بعيد استوقفني ( بيان الكتابة ) الذي أصدره محمد بنيس في مجلة ” الثقافة الجديدة ” ع19 / عام 1981 حينما أشار قائلا :
” آسفون على هذه المنجزات المعرضة للضياع مادامت لا تقرأ ، لا تعيد إنتاج نفسها لأن الذي يستمر في التاريخ هو ما يكون فاعلا في مصير الإنسان وعاملا رئيسيا في تحوله وتحرره ، تظل أسيرة في أوراق منكفئة على موتها الدائم ، تختلي ببرودتها وتكلسها ، وما أعطته أسباب النشر في أغلبه غير سقط الشعر أو الرواية …. وأرذل الكلام ” .
ومع ذلك في مناسبات عدة وحفلات التوقيع ما يلاحظ أن بعض الأشخاص يحلون ضيوفا ثقالا على العمل المقروء أو اللامقروء في أحايين كثيرة ، لأنه تطالعك خلال مداخلاتهم جداول وخطاطات ، كما تخيفك كثرة المفاهيم والمصطلحات ، الأدهى والأمر أن لدى بعضهم قوالب تتغير فيها الأسماء وشيء من التعليقات الطفيفة لا غير .
كل ذلك بهدف إضفاء على فعل القراءة صبغة متعالمة تقف أمامها مندهشا تسلم لصاحبها بالعلم الوفير ، لأنك تجده في كل مناسبة على ضوء آخر التقليعات النقدية التي يقرأ نتفا منها عبر المترجمات فقط _ حتى الرديئة منها _ يصدر أحكامه التي لا تقبل الجدل ، فلا نملك معها إلا الصمت عجزا عن استيعاب تأويلاته الرصينة .
ضدا على الرداءة وثقافة الاستهلاك السريع والضحالة وجب على من يكتب ألا تغريه الأوصاف المقيتة الرخيصة بحكم العلاقات المرضية القائمة على النفاق الاجتماعي ، لأنه أمام رعب الليل أو قلق النهار وقد استند إلى اللغة كسيميائي يعيد النظر في ترتيب العلاقة بين الدوال والمدلولات لاجتراح لغة خاصة به ، ومن ورائه ما راكمه من مقروء يخص الجنس الأدبي الذي يعنيه ، إلى جانب تجاربه الحياتية ، والقيم الفنية والجمالية التي آمن بها ، ورغم هذه الشروط قبل الإقدام على الطبع أو الإنشاد ( في حالة الشعر ) أو قراءة نص له في إحدى المناسبات لزمه احترام السلامة اللغوية ، والاحتراز من السقوط في مجانية التجريب ، واستسهال الخلل على اعتبار أنه شيء عابر لصيق بعقولنا كاللعنة الدائمة ، زيادة على صفاء الرؤية وعمق الرؤيا .
وهي شروط لا ريب كفيلة بأن تخلخل الجاهز ، وتحرك المياه الراكدة الآسنة التي طالما هزنا عندها الحنين إلى شيء من إنسانيتنا دونما أدنى شعور بإحباط الآخرين علنا نعثر في منجزاتهم الأكثر نضجا قراءة عاشقة فيها مراح للروح ومستراح للقلب المتقلب ، بمنأى عمن يلهثون وراء المناسبات قصد لي أعناق النصوص ، وتحميلها ما لا تطيق حتى يتسنى لهم وصف هذا بالشاعر المبدع ، وذاك بالروائي المتميز ، أو القصاص الفذ ….
ولكي يتجنب الناقد / الشاعر / القصاص / الروائي / الكاتب المسرحي مغبة ماتستمرئه نفسه جراء تضخم أناه ، وحتى لا يتعفن جهده في الفضاء الورقي أو الإلكتروني عليه أن يقتنع بأن في سواد مداده بياض جمال الإشراق والأشواق ، وأن يؤمن بالحكمة القائلة :
( كلما أدركت سر نفسك ، فهمت العالم من حولك ) .