
محمد أكرم الغرباوي
التوغل بمتاهات ودروب حي الديوان بالقصر الكبير و أزقة المدينة القديمة ككل ، كان إكتشاف يومي لنا نحن الصغار .كبرنا ونحن نجوبها و نتأمل في نفس الأشياء التي كانت تثيرنا وتستوقفنا الآن أكثر . نوافذ ، أبواب، أقواس، مُسميات وعناوين الدروب التي كانت لاتليق بعضها بالمكان . كنا نتعجب من تسمية زقاق بالذبان ، وآخر بالبقرة و آخر بخنزيرة و السطل و العلوج و السمن … أهناك سر في هذا ؟ ولماذا لم تتغير ؟
الوقوف أمام الجدران الباردة التي كانت بها ( قشرات ) طبقات من الجير بالألوان ، بعدد مرات الطلاء أمر كان يستهوينا لعده مثل دوائر جدوع الأشجار بحثا عن عمرها .
أقواس المدينة متعددة و مختلفة منها قوس نصف دائري و آخر به أقواس مسننة و آخر جانبه به نتوءات . أكيد لم يكن زينة فقط . هي سحرية العمران و أسرار أخرى .
الطرقات كان بها حجر كبير و صغير و ببعض ساحاتها أو مداخلها الرحبة نجد مصفوفات ثمانية الأضلاع . متلاصقة عرفت بإسم ” المزيهري ” .
لوحات التشوير وخطها كان مثيرا .ست زليجات متوسطة الحجم بيضاء اللون مكتوب عليها إسم الزقاق بخط مغربي أنيق ولاتيني مثير . و كذا أرقام بسيطة فوق الأبواب .
نوافذ المنازل و الدور الصغيرة ، كان يستهويني شباكه المزخرف .[ كم توقفت لأرى عمليات زخرفة قضبان النوافذ بالحدادين . كان يشعلون النار بفرن داخل الدكان ويدخلون قضبان الحديد النار لتحمر و يسهل طيها و ضربها بالمطارق . جميلة طريقة شدها ببعض دون كيها ببعض بل بربطات حديدية فقط.] نوافذ المدينة القديمة مربعة و دائرية و نصف دائرية كانت جمالياتها في صغرها و كبرها حسب المساحات .
بروز الألواح الخشبية في بعض الأزقة واضح . كانت تستعمل كسرير توضع فوقه الحجارة و الرمل و إعتماده سقفا أو رفوفا لحجب الشمس و المطر أو أرضية لبناء للصابات .
سألت بعض الساكنة هناك عن أسرار هذه ” الصابات ” البنايات الفوقية المربعة الضيقة أو الطويلة ، قيل لي حسب ماسمعتو العهدة على الراوي .
” الصابات ” سكنيات أو بيوت تكون فوق هواء زقاق أو درب . بمثابة علية جانبية ( مصرية ) تضاف إلى منزل إما يمين أو شمال الدرب . بعد إتفاق مع صاحب المنزل المقابل قصد مد جسور خشبية بمثابة أرضية وسقف العلية من منزل لآخر مقابل له .كانت تُبنى لغرض شد المنازل ببعضها تخوفا من زيغ أو ميلان . وقيل أن الغرض كان أكبر من هذا أحيانا . له علاقة كبرى بثقافة التضامن الإجتماعي و التآزر و التآخي و التعاون بين الأسر المغربية بهذه الأحياء الشعبية التي كان يصعب فيها زيادة طوابق علوية ببعض منازلها . هذا التآزر الذي كان أساسه منح هذه العلية لإبن أحد الجيران و الذي يكون معيلا أو كفيلا لأسرته . من أجل الزواج به . و السكن رفقة والديه أو أسرته .
– قد يكون صحيحا هذا السرد لكنني وجدت توافقا ونفس الجواب عن سر هذا الصباتات في أماكن مختلفة –
ومن جميل المحكي المتوارث أيضا ، وما سمعت في باب التضامن الإجتماعي و التآزر .
خلال الأفراح و الأحزان و المناسبات كانت تفتح المنازل الرحبة ذات الفناءات المفتوحة أمام الجيران لإقامة مناسباتهم بها . وكذا مد الأسر بالأثات و الأواني المنزلية و إعداد كل مستلزمات الفرح أو الحزن من عجين الحلوى و الخبز و الفقاص بشكل جماعي . أو التعاون على الطبخ و الإطعام . كل هذا من أجل جعل الفرح فرحا ولاشيء غيره.
و للأبواب والأقفال سحر خاص بدء من مطرقة الطرق على الباب و أشكالها و أحجامها و منحوتاثها منها الدائري المرشوم المنقوش على حافة الدائرة . و مجسم اليد المشدودة الماسكة . واليد المفتوحة على شكل كف . وكذا رمزية العلامات التي كانت تلصق بالأبواب كالصفيحة و الخمسة ( الكف ) و الشمعدان . ما تشكله من دلالات و دلالة . وعلامات و رموز و إيحاءات كان الغرض منها أكبر من شكلها أو حجمها .
كذلك هي صوامع المساجد و الأضرحة . بالديوان صومعة رباعية مستطيلة الطول ، وأخرى ثمانية الأضلاع قيل أنها كانت لدير يهودي وأضرحة كثيرة بأسماء أولياء ووليات نساء أيضا . بقباب خضراء و نوافذ تطل على الضريح برداءه الأخضر المثير لكل ناظر .
وللأشخاص بالمدينة القديمة جمال خاص تجاعيد ووشم عريق . ولباس تقليدي أصيل .
كلما إخترت السير بين أزقة و دروب المدينة كلما أحسست أنني أزورها للمرة الأولى .
هو سحر البدايات يعيد نفسه كل زيارة مع رائحة التراب و التوابل و نظرات الشيوخ و صخب الأطفال ورائحة الخبز و دخان وحريق الأعواد بالفران و الحمام الشعبي . وصوت الأغنية المغربية أو دندنة الهجهوج بدرب كناوة . أو الضوء المبهر بين الشقوق و فراغات الصابات .
هي جولة تعيد الروح لهويتها القصرية المغربية العريقة
💐🙏💐
كلمة محبة مقامكم
[مقام البوح – محاولة كتابة – كان رحلتي وجولتي هذا الصيف لقلوبكم بمعية ذاكرتنا الجماعية الجمعية المشتركة ، بحثا عن وقت رحيم لنسافر بمحبتنا إلى فضاءات و شخوص و أمكنة وعوالم سكنتنا جميعا لصفاءها وجمالها و عنفوانها .
🌹شكرا الأستاذ المقتدر محمد كماشين على التقاسم و النشر اليومي ببوابة القصر الكبير و مجموعاتها
🌹شكرا لكم جميعا من القلب لتقبلكم هذا المقام في جزءه الأول . محبتي إليكم . ]
شكرا لكم
محمد أكرم الغرباوي
باحث في الفنون التعبيرية
كاتب ومخرج مسرحي