بقلم: عبد القادر أحمد بن قدور
الحياة البشرية والمدنية عندما تبلورت مع وجود الصراعات السياسية المختلفة لم تبرح مكانها قط. ونجد أنه قد تشهد تواريخ بعض الأمم والشعوب تعيش عصورا ذهبية، ولكنها سرعان ما تزول. وتنتهي من هذه الحياة… لذلك وضع بعض الفلاسفة جزءا من تصوراتهم الفكرية في قيام نظام سياسي قد يستقر فيه المجتمع بشكل قد يكون مثاليا، ويعتبر أفلاطون (427-347ق.م) أول من وضع هذه الصياغة في العالم أجمع، وذلك في كتابه “الجمهورية”، ثم في كتابه من بعد “النواميس”. وحسب ما يراه أن المشكلة الفلسفية الحقيقية إنما هي سياسية تظهر في صميم المجتمع وحياته المدنية التي تحتاج إلى إعادة بناء جذري قصد قيام نظام سياسي مثالي قد تسوده العدالة على نحو تام.
والواقع أن فكرة أفلاطون، أو ما توصل إليه من قناعة ذاتية وشخصية هي رؤية لما توصل إليه بخبرته الحياتية اجتماعيا وسياسيا وأدبيا وفنيا وعسكريا كذلك. إذ هو سليل أسرة عريقة بالمجد والشرف السياسي والاجتماعي من نظم الشعر وتأليف المسرحيات ونبغ في الرياضيات والبلاغة والموسيقى ودروس الفلسفة، كما شارك في حروب البلوبونيز سنة 404ق.م ونال جائزة عن شجاعته. ويضاف إلى ذلك سفراته ورحلاته لطلب العلم والمعرفة، منها ذهابه لمصر الشقيقة وإلى جنوب إيطاليا، والمرارة النفسية التي تعرض لها عند إعدام أستاذه سقراط (469-399ق.م) وذلك بدوافع سياسية وليست فكرية، وإلى أسره ثم بيعه في سوق صقلية مثل العبيد لسبب سياسي فقط.
وهكذا فكل تلك الأمور والقضايا خلقت عند أفلاطون رؤية فلسفية متميزة قدم من خلالها، كما يعتقد، حلا مثاليا لمشكلة السياسة داخل المدينة (أو الدولة) الفاضلة.
وبما أن الفيلسوف يحيا فقط بهذا النوع من المدن وليس في مضاداتها، وطالما كانت الحياة السياسية خلال كل العصور فيها شرور وبطش وفساد، لذلك فقد شيد أفلاطون جمهوريته النظرية القائمة على أسس العلم والمعرفة والمحكومة بقيادة العقل والفلسفة فحسب، ولنفهم تركيبة التفكير السياسي عند أفلاطون، علينا أيضا أن نفهم بنية تفكيره الأخلاقي، لأنها متضمنة ومتداخلة فيها. لأن السياسة ليست أكثر من امتداد طبيعي للأخلاق.
وهذا النهج الذي اتبعه أفلاطون قد سار عليه كذلك أستاذه أرسطو طاليس (384-322ق.م) ومعظم فلاسفة اليونان. ومن هذا كان أفلاطون يدحض مزاعم السفسطائيين القائلين بإنكار قوانين الأخلاق وقوانين الدولة كذلك آنذاك. بدعوى أنها من اختراع الضعفاء من أجل حماية أنفسهم من جبروت الأقوياء.
فالسلطة حسب رأيهم إن هي إلا حق شرعي للأقوى دائما. لكن أفلاطون ينص بأن إحراز السلطة يكون بقوة العقل لا بقوة الغاب الوحشية. وهذا الرد رفع أكثر من شأن السياسة كونها علما متصلا بالأخلاق وقوانينها.
أما أبو نصر محمد الفارابي الفيلسوف والمفكر (257-339هـ) –(870-950م) والذي قد يعد هو المعلم الثاني للفكر الفلسفي بعد أرسطو. لأنه هو أول فيلسوف في الإسلام الذي اتبع هذا النهج الأفلاطوني في كتابيه “آراء أهل المدينة الفاضلة” و”السياسة المدنية”. لكن تأثره هذا لا يعني بأنه بنى فكره السياسي على نحو انقيادي تقليدي. فالكندي (801-872م) الذي وضع حجر الأساس للفلسفة العربية لم يكن له شأن في هذا المضمار، ولم يحفل بالسياسة رغم وجود القلاقل في عصره. ولكن هناك حالة مشتركة نوعما بين أفلاطون والفارابي من الناحيتين الذاتية والموضوعية. فقد شهد الفارابي الاضطرابات السياسية والفتن والحروب. ولقد ترك بغداد وتنقل من دمشق إلى مصر ثم حلب. زيادة على سفراته في طلب العلوم والمعرفة، وبراعته في أكثر من حقل فكري أو فني أو صوفي. فضلا عن تأثره بفلسفة أفلاطون وأرسطو، حتى إنه ألف “كتاب الجمع بين رأيي الحكيمين” كل هذه الأشياء قد أثرت في نفسية الفارابي ليضع نظريته السياسية في المدينة الفاضلة على غرار أفلاطون.
وهنا أركز على عبارة نفسية “الفارابي لأنه لم يتقلد أي منصب سياسي، ولم يشترك في معترك الحياة السياسية قط بل اكتفى بتحريك فكره النير الفلسفي سياسيا لا أكثر”.
الحديث عن الدولة والشعب
دولة الحق التي شيدها أفلاطون المتعمقة بالعدل أساسا إنها صورة مكبرة للفرد، إن غاية الأخلاق هي الدولة لا الفرد، أي بمعنى آخر، إن الفرد عبارة عن صورة مصغرة للدولة، والدولة هي الهيكل الضخم لهذا الفرد وبما أن القوة الناطقة “في الفرد تعتبر أعظم القوى جميعا”، إذن يجب أن تكون الفلسفة هي القوة الحقيقية والأساسية في توجيه الدولة. كما يجب أن يكون رئيسها فيلسوفا كما ذكر لأن العدالة في الفرد وفي الدولة لا يمكن أن تتم ما لم يبسط العقل نفوذه ويحكم. ولقد قسم أفلاطون الدول التي تضاد دولة العدل إلى أربعة أقسام وهي:
1-الدولة الدينية، وهي حكومة الطبقة الوسطى التي تسمح بالملكية الخاصة وما يصيب النظام من اختلالبسبب ذلك. فتجعل العسكر في هذه الطبقة هم الأفضل، مما يؤدي إلى العنف والحرب.
2-الدولة الإقطاعية، وهي ناتجة عن الدولة الدينية، حيث يعتاد الأفراد على جمع المال بأية وسيلة كانت: وبسبب ذلك تضمحل وتنتهي الفضيلة ولا يبقى غير الأثرياء لقيادة الدولة لأنهم الأفضل.
3-دولة الشعب، وهو الحكم الديمقراطي الفوضوي، حيث يثور الفقراء على الأغنياء، بسبب الحرمان والتعسف ويصبح الحكم شائعا للجميع، لا نظام ولا قائد مسيطر، بل الشعب يحكم نفسه بنفسه.
4-دولة الاستبداد، وهو حكم الطغيان والمصالح الشخصية، إذ بعد أن تعم الفوضى لحكم الشعب، تفرز هاته الحالة أفرادا من المجتمع يوهم الجميع على أنه سوف يبني دولة الرفاه بلا ضرائب ولا ظلم.
هذا، وقسم أفلاطون أيضا شرائح المجتمع إلى طبقات مثلما قسم النفس الإنسانية. فالأولى هي طبقة الحكام الفلاسفة الذين يختصون بمزايا العدل بالدرجة الأساس “الجمهورية، الترجمة الانجليزية، ص 199) وتقابلها النفس الناطقة. والثانية طبقة الكتلة العسكرية وتقابلها النفس الغاضبة. وأخيرا طبقة العمال وهي تقابل النفس الشهوانية.
وهنا يختلف الفيلسوفالفارابي جذريا عن أفلاطون لأنه يرى أن الشعب كأنه جسم واحد تام صحيح لا توجد فيه طبقات البتة لكي تنفصل بعضها عن البعض الآخر. كما وأنهم على شكل سلسلة ذات درجات تبدأ من الرئيس الأول ثم الثاني والثالث وهكذا دواليك إلى الدرجة التي تخدم ولا ترأس. لكنه يفرق بين النظام الجسدي والنظام البشري لأنه يقول: “إن أعضاء البدن طبيعية، والهيآت التي لها، قوى طبيعية. وأعضاء المدينة، وإن كانوا الهيآت والملكات التي يفعلون بها أفعالهم للمدينة ليست طبيعية، بل إرادية”. (المدينة الفاضلة ص:98).
إن الشعب في بنيانه يمثله الفارابي بأنه أشبه بالموجودات الطبيعية من حيث الائتلاف والارتباط والتدرج والترتيب بحيث كل موجود يعمل بحسب قوته وموقعه ابتداء من الأعلى ثم الأدنى. فالأدنى حتى ينتهي إلى المادة التي تخدم ولا رئاسة لها.
أما مضادات المدينة الفاضلة فقد قسمها الفارابي إلى أربعة:
1-المدينة الجاهلة: وهي التي لم يعرف أهلها السعادة ولا خطرت ببالهم حتى وإن “أرشدوا إليها لم يقيموها” لأنهم ظنوا أن ملذات الحياة هي الخيرات ورغم أن أقسام هذه المدينة متعددة إلى ستة مدن، إلا أن رؤساءها يمتازون بالأهواء الشخصية والأنانية.
2-المدينة الفاسقة: تكون آراؤها هي آراء المدينة الفاضلة، لكن أفعال أهلها كأفعال أهل المدينة الجاهلة.
3-المدينة المبدلة: وهي كانت آراؤها وأفعالها في القديم آراء المدينة الفاضلة وأفعالها. غير أنها تبدلت وقد دخلت فيها آراء فاسدة فاستحالت أفعالها إلى أفعال فاسدة ولذلك يهلكون مثل أهل المدينة الجاهلة (المدينة الفاضلة، ص 111).
4-المدينة الضالة: وهي كانت تقر بالسعادة الأخروية وتعتقد بالله والخلق الفيضي والعقل الفعال، لكن اعتقادها خاطئ وفاسد، بسبب رئيسهم الذي أضلهم.
الحاكم والرئيس:
ينص أفلاطون على أن الحاكم لا يصلح ولا يكون إلا فيلسوفا، ويسميه المثل الأعلى والسبب الرئيسي في ذلك هو أن الفيلسوف، أو الفلاسفة الحكام هم وحدهم الذين يدركون المثل لا الاستبداد. خصوصا وأنهم لا يبغون السلطة من أجل المال أو الجاه أو التسلط بل غايتهم تنصب نحو المصلحة العامة فقط.
ويذهب أفلاطون في تصوره إلى حد أن يجعل من طبقة الفلاسفة أن لا يقترن أحدهم بامرأة معينة، لكي لا تأخذ منهم الأسرة مهام ومسؤولية الدولة. ولهذا فقد أكد على “مشاعية النساء والأولاد”. (الجمهورية، ص 162). حيث تكون النساء مشاعا للطبقة الحاكمة، دون أن يعرف الأب ابنه ولا المولود والده، حتى لا تكون عواطف وميول تؤثر على عقلية الحكام والنظام الصارم. ولكن هذا التشدد الذي يبديه أفلاطون تجاه نظام الفلاسفة القادة، يقابله فتور تجاه العامة من الناس. فلا يحفل بهم ولا يضع لهم نظام ولو بسيطا، سوى أنه يطالبهم بأن يتبعوا الأخلاق الشعبية المتبعة، والالتزام بالعادات والتقاليد الموروثة.
أما الفارابي فيخبرنا عن شخصية الرئيس، وكيف تكون؟ فحسب رأيه أن درجة الرئاسة لا يمكن أن ينالها أي إنسان عادي. لأن المفهوم الرئاسي عنده نابع من صنفين، إما أن يكون الرئيس معدا لذلك بالفطرة والطبع. أو أن يكون مهيئا للرئاسة بالملكة الإرادية والشكل ويسميه “الرئيس الأول” وهو الذي قد حصلت له من العلوم والمعارف بالفعل ولا تكون له حاجة في شيء إلى إنسان يرشده، وتكون له قدرة على جودة إدراك شيء مما ينبغي أن يعمل من الجزئيات، وقوة على جودة الإرشاد للآخرين وتوجيههم وتشديد خطاهم نحو السعادة. (السياسة المدنية، ص 78). وبما أن هذا الإنسان هو من “أهل الطبائع العظيمة الفائقة” حيث تتصل نفوسهم بالعقل الفعال. وكل من يتصل بالعقل الفعال فإن الله يفيض أو يوحي إليه لذا فإن رئيس المدينة الفاضلة ليس فقط يحتل وظيفة سياسية عليا وفق مفهوم الفارابي، بل إنه معلم أخلاقي وفيلسوف مثالي ونبي ديني، ومثال يتشبه به كل أفراد المجتمع والدولة على حد سواء- إنه نبي وفيلسوف في آن واحد، حيث تجتمع فيه اثنتا عشرة خصلة من الصفات الفاضلة التي فطر عليها. ونظرا لصعوبة اجتماع هذه الخصال في شخص واحد، فإن الفارابي يشترط في الرئيس الثاني أن تجتمع فيه ست شرائط: أن يكون حكيما. أن يكون عالما حافظا للشرائع. له جودة استنباط. له جودة روية. له جودة إرشاد. له قوة بدنية في أعمال الحرب. وإذا لم تتوفر هذه الشروط في شخص واحد، فيقترح الفارابي تشكيل مجلس رئاسي.
النظام والتربية:
يرى أفلاطون بأن الإنسان المثالي هو الذي يسيطر بقواه العقلية على قوتي الغضب والشهوة لذا فإن نظام الدولة يكون مثاليا شريطة أن تسيطر طبقة الحكام على طبقتي الجيش والعمال.
وكذلك نظام الدولة هو المؤول عن تربية الأفراد وتنشئة الجيل المتميز بالعدالة. فمنذ أن يولد الأطفال- الذكور والإناث- تتعهد الدولة لهم بعد عزلهم عن ذويهم ثم يفرزون طبقيا بعدما تنهي الدولة دراستهم على كافة الفنون والعلوم والرياضة وكل من يرسب في امتحان تفرزه الدولة فيأخذ منزلته العملية في المجتمع.
وهذا النظام التربوي ينتهي بالأفراد في سن الخمسين. إذ عند ذاك تصل القلة القليلة لبلوغ طبقة الفلاسفة الحكام حيث هذبهم السن والخبرة وامتلأت نفوسهم بالعلم والمعرفة. حتى إن صاروا جديرين بنيل المثل العليا في رئاسة الدولة والحفاظ على نظامها التربوي والتعليمي.
أما الفارابي فبحكم عقيدته الإسلامية فإن النظام والتعليم يكون عنده على صورة مغايرة تماما عن نظام أفلاطون إلا أنه يشير إلى الأشياء المشتركة والتي توجب أن يعرفها جميع أهل المدينة الفاضلة، ألا وهي نظرياته الفلسفية التي وضعها في معرفة السبب الأول (الله) وجميع ما يوصف به، والأشياء المفارقة للمادة (العقول)، والجواهر السماوية والأجسام الطبيعية، ومعرفة النفس وقواها، وكيف يكون الوحي، ومعرفة الرئيس الأول، والمدينة الفاضلة والمدن المضادة الخ وإذا كان حكماء المدينة الفاضلة يعرفون هذه الأمور وفق بصائر نفوسهم، فإن أكثر الناس لا قدرة لهم، وحسب رأي الفارابي ينبغي أن تخيل إليهم بأشياء تحاكيها لأنه لا هيئة في أذهانهم لتفهمها على ما هي عليه. فمعاني هذه الموجودات وذواتها واحدة لا تتبدل. وأما ما تحاكي بها فأشياء كثيرة مختلفة بعضها أقرب إلى المحاكاة وبعضها أبعد. ولكن لا حرج عليهم في ذلك، فهم كلهم يؤمون سعادة واحدة ومقاصد واحدة بأعينها.
التقييــم
إن ما أوردناه من المفاهيم الرئيسية في الفكر السياسي بين أفلاطون والفارابي، فإنها تتقارب حينا وتتباعد حينا آخر.
ونود أن نعرض ذلك وفق النقاط التالية:
أولا: إن الدولة والشعب حسب نظام أفلاطون يكون على شكل بناء هرمي. وبما أنه لا يؤمن بتغير لصنف العمل، لذا تبقى طبقة العمال هي الأخس والأدنى أبدا، ورغم التعديل الذي أتى به أرسطو فيما بعد. إلا أنه بقيت هذه الطبقة على حالها. وإذا أخذ ناثورة العبيد في روما الذي بنى عليها كارل ماركس جزء من حججه الفكرية. نرى أن ماركس على جهة كلية قد رفع طبقة على حساب طبقة أخرى ولهذا فقد جعل البناء الهرمي الأفلاطوني مقلوب الشكل ليس إلا.
وعليه فإنه لم يحل تماما المشكلة السياسية في الآلية الاجتماعية. ولهذا نجد أن الفكر الماركسي قد انهار بعد سبعة عقود من تطبيقه في جمهوريات الاتحاد السوفياتي، وبعد أربعة عقود من شرقي أوروبا.
ثانيا: رغم أن الفارابي امتاز برفضه اختلاف الطبقات الاجتماعية، لكنه استعار تشبيه (الجسم) عن أرسطو. ورغم سعة الدولة الإسلامية، فإنه فضل استخدام كلمة “مدينة” تأثرا في “جمهورية أفلاطون”.
وحبذا لو أخذ بعض الشيء من معاصره الشاعر الحكيم المتنبي في قوة المقارعة.
ثالثا: إذا كان رأي أفلاطون بأن زعيم الدولة يجب أن يكون فيلسوفا فإن الفارابي قد غالى ورفعه إلى منزلة النبي. وذلك بحكم اتصاله “بالعقل الفعال” الذي يصل به إلى منزلة “العقل المستفاد” من خلال استعمال “عقله المنفعل” للمعقولات جميعا. وبذلك يكون الفارابي قد خرج عن تعاليم الشريعة الإسلامية. فضلا على أن هذه النزعة الإدراكية هي حصيلة الأفلاطونية المحدثة في الإسكندرية.
رابعا: جعل أفلاطون دولته العادلة على شكل وحدة جامعة تكون فيها علاقة الفرد بالدولة على أساس عدالة في الفرد على شكل وحجة عدالة في الدولة. ورغم أن أرسطو أدخل تأثير الزمان والمكان على الفرد وأخذ منعطفا آخرا. إلا أننا نلمس أن هذا المبدأ قد انقسم بين الفلسفتين الوجودية والماركسية. فالأولى بشقيها المؤمنة والملحدة يرتكز محور فلكها على الأنا الفردية في فهم الحياة والوجود. بينما الثانية ترى أن العدالة في الدولة أو المجتمع هي غاية العدالة في الفرد.
خامسا: لقد تجاهل الفارابي أو تجنب بمعنى أدق آراء أفلاطون التي تتنافر وسلوكيته الدينية والاجتماعية. ومنها إباحة الحكام ومشاعية النساء، والأولاد، والمرأة في عمل الرجل، واحتكار المال، وأجزاء الحب الأفلاطوني. والحق كان الأجدر بالفارابي أن يعارضها ويرد عليها بما هو أصلح وأصح لاسيما وأنه قد شرح الكثير من آراء وأفكار أفلاطون وأرسطو.
سادسا: إن الرؤية السياسية التي طرحها الفيلسوفين لم تلاقي ذلك الإقبال ولا التطبيق. صحيح أن أفلاطون في “النواميس” أدخل القانون وإجبارية التجنيد، وألغى مشاعة النساء، والاعتراف بالأولاد، ونادى بالتطبيق الاشتراكي في توزيع الثروة على الجميع وركز أكثر على التربية وغيرها من الأمور الإيجابية، بل وسعى عند الحاكم يونيسوس الثاني لإقامة نظام الحكم المثالي، لكنه فشل لأن مفاهيمه السياسية بقيت أقرب إلى السماء منها إلى الأرض. ولذلك نجد في مستهل كتابه يبدأ بهذين السؤالين: “أخبروني أيها السادة، من الذي وهبكم قوانين شريعتكم؟ هل هو الإله أو الإنسان؟” يأتي الجواب مباشرة على لسان “كلينياس” الإله، سيدي، إنه الإله وهذه هي الحقيقة الصادقة (النواميس، ص 45) وكذلك بالنسبة إلى الفارابي، فرغم أن السياسة أخذت موقعا مهما في فلسفته، لكنها بقت محصورة ضمن نطاقها النظري.
وعليه فقد أتى فكره السياسي ضعيف عمليا، لا يفي للواقعية المطلوبة في الدولة الإسلامية وبما أنه فيلسوف وصوفي يحب العزلة، لذا فإن آراءه السياسية جاءت مثل شخصه معزولة عن المجتمع.
هذا وأشير إلى أنه يجب على العلماء، أن يتجنبوا الإضرار بالمجتمع، كما يجب عليهم تحقيق منافع اجتماعية، ويجب أن يكون العلماء مسؤولين عن عواقب أبحاثهم، وأن يبلغوا الجمهور بهذه العواقب.
وينبغي على العلماء ألا يختلقوا المعطيات أو النتائج، أو يكذبوها أو يحرفوها عليهم أن يكونوا موضوعيين، وغير منحازين وصادقين في سائر مناحي عملية البحث.
هذا المبدأ هو أهم قاعدة في العلم، ذلك لأنه إن لم يتبع، فيستحيل علينا أن ننجز أهداف العلم. فلا البحث عن المعرفة ولا حل المشكلات العملية يمكن أن يمضي قدما إذا تفشى الخداع. وأيضا الأمانة تزكى التعاون والصدق الضروريين للبحث العلمي والفكري. لابد أن يكون العلماء قادرين على الثقة بعضهم ببعض، لكن هذه الثقة تنهار متى افتقدت الأمانة.
وفي النهاية، تبرز الأمانة بناء على أسس خلقية منها: أن كل الناس- بمن فيهم العلماء- يجب أن يكونوا صادقين ومخلصين في أداء رسالتهم النبيلة والهادفة إلى الأفضل والتقدم الملموس.
ومن وجهة نظري كذلك أن قادة الدول ورؤساء الحكومات يلزم أن يكونوا أنهم قد درسوا بكلية الحقوق والقانون، ومتمكنين منه ومستعبين له ودارسين له دراسات عليا لأنه إذا كان قد فرق الفقهاء في تعريف قواعد الحقوق، بين الحقوق الشخصية، والحقوق الموضوعية، والحقوق الوضعية.
ونشير الآن إلى الحقوق الشخصية بأنها الامتياز الذي يتمتع به شخص ما، ويخوله أن يجبر شخصا آخر على القيام بعمل أو الامتناع عن عمل، أو احترام وضع يفيد منه ذلك الشخص.
والحقوق الموضوعية فهي تبدو من خلال الدولة. وهكذا نجد أن القواعد الموضوعية، بأنها مجموعة القواعد التي تمليها الدولة أو تقرها ويخضع الناس لها في المجتمع.
والحقوق الدستورية فرع من الحقوق العامة التي تضم أيضا بصورة رئيسية، الحقوق الإدارية والحقوق الدولية العامة… التي يلزم أن تطبق وتنفذ، وخاصة في الدول التي صادقت عليها منذ سنين عديدة. فوطننا العزيز والغالي حباه الله بملك مقدام جلالة الملك محمد السادس المحبوب نصره الله وأيده ومتمكن من القانون ومستوعبا له كثيرا وعارفا أسراره بتمكن كبير ودارسا له الدراسات العليا، حيث إنه حاصل على دكتوراه الدولة في القانون بميزة مشرف جدا، مع تهاني لجنة المناقشة بشرف كبير بالجامعة الفرنسية، وذلك عن أطروحة حول موضوع أساسي في القانون وهام حول موضوع: “التعاون بين السوق الأوروبية المشتركة والمغرب العربي في 29 أكتوبر سنة 1993م، من جامعة نيس صوفيا أنت يوليس، ودبلوم في الدراسات العليا لدكتوراه القانون العام في شهر يونيو سنة 1988م.
كما حصل من قبل سنة 1985م على شهادة الإجازة في الحقوق من كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية بالرباط بجامعة محمد الخامس عن بحث حول موضوع “الاتحاد العربي الإفريقي وإستراتيجية المملكة المغربية في ميدان العلاقات الدولية. ثم دبلوم في الدراسات العليا في العلوم السياسية سنة 1987م، وأجرى في شهر نونبر 1988م ببروكسيل-عاصمة المملكة الديمقراطية والاجتماعية بامتياز كبير- هذا وأن وزيرة الخارجية لهذه المملكة العتيدة والتي تتحقق فيها كل الحقوق والحريات والعدالة قد ساندت المملكة المغربية في وحدتها مع الصحراء المغربية العزيزة والشاملة بكل شجاعة وقدرة كبيرة كعديد من الدول الأخرى التي تساند بلدنا في وحدته مع الصحراء المغربية العزيزة والغالية علينا جميعا – تدريبا لبضعة أشهر لدى السيد: (جاك دولور) رئيس لجنة المجموعات الأوروبية آنذاك، لذلك فقد صاغ دوما جلالة الملك محمد السادس رعاه الله ونصره القائد الأعلى ورئيس الأركان العامة للقوات المسلحة الملكية المغربية منهجية الجوار في استخلاص المواقف.
وتتميز كافة مبادراته من إصلاح مدونة الأسرة إلى إقرار وثيقة المصالحة وجبر الأضرار بكل عناية وممنونية ودراية كبيرة وعمل على طي ملف الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان خلال سنة 2005م وكما ذُكر، ومع الأسف الشديد لم تنفذ كلها حتى إلى تاريخ هذا اليوم من بعض المسؤولين، ومن استنباط مقترح الحكم الذاتي لتجاوز المأزق الذي كانت قد تردت فيه جهود الأمم المتحدة إلى بلورة معالم الجهوية الموسعة، والتي ترفع الأعباء الإنمائية عن الدولة المركزية، ومن هيكلة الحقل الديني إلى انطلاق المبادرة الوطنية للتنمية البشرية مرورا برفض الإملاءات والتصنيفات الجائرة، إلى غير ذلك من المهام الأساسية له في المغرب الحديث.
-القصر الكبير في يوم الأحد 04/09/2022م