ذ. إدريس حيدر
اصطف المعتقلون مثنى مثنى بأمر من حراس السجن ،و لاحظت أن معتقلي الحق العام الذين أُحِيلوا هم الآخرين على السجن في نفس الوقت ، قد بدؤوا يؤدون صلوات و نوافل و يرفعون أكفهم إلى السماء مبتهلين الله بصدور أحكام بالبراءة لفائدتهم.
كان منظرهم يثير العطف و بعض الضحك ،خاصة و أن أغلبهم لم يكن يؤدي الصلوات كما هي ، فيقفزون على ركعات أو سجدات أو يضيفون بعضها.
في ذات الوقت الذي كان الحراس يَعُدُّون فيه المعتقلين حاملين أوراقا تحمل أسماءهم ، و يمكنونهم من لوازم السجن من أغطية داكنة اللون و مهترئة، بعضها يَفْرشُها السجناء و البعض الآخر يتغطون بها و آنيات لتناول الطعام و هي عبارة عن صحون يسمى الواحد منها بلغة السجن ب ” البتيا” .
ظهر رجل قصير القامة ،وسيم المحيا ،بتقاسيم متوازية و متناسقة .
و كانت بذلته تبدو أوسع منه و كأنها لرجل أطول و أملأ منه ،بحيث أن أكمامها كانت طويلة و ممتدة إلى درجة أنه لا يبدو من ذراعيه سوى أصابعه ،كما أن رأسه الصغير كان يغطس في قبعته، و يبدو و كأنه ضابط في الجيش الألماني أثناء الحرب العالمية الثانية .
كان هادئا ، و يبدو من خلال نظراته ، إنه ذكي و ذو تجربة إنسانية غنية و عميقة ،بحكم قضائه في عمله و وظيفته ردحا غير قليل من الزمان ، و معاشرته لنماذج مختلفة من المسجونين .
همس صديقي ،الذي سبق له أن قضى عقوبة حبسية في نفس المكان بسبب نشاطه النقابي ، قائلا :
” إنه الحاكم الفعلي لهذا السجن المقيت ، و يهابه كبار المجرمين و أخطرهم ،إنه” قائد المعقل ” chef pénitencier ” و أضاف:
” كما أن فراسته في البشر لا تخطئ ”
ظل الرجل صامتا بعض الوقت ،ثم تكلم بهدوء و نبل :
” أتمنى ان يكون مقامكم هنا في هذا السجن طيبا ، و أن لا تكرر إقامتكم فيه ثانية “.
كان الرجل يُدْرِك أننا معتقلون سياسيون ، و أن ذنبنا الوحيد هو عشقنا لهذا الوطن .
أعطى أمره لمرؤوسيه بتوزيع المعتقلين على الزنازن المكتظة مؤقتا إلى أن يجد لهم أخريات تليق بهم .
كان هذا الرجل القوي و الناعم في نفس الآن ، يُدْعى ” بْوَا درِيس”.