
– ذ . محمد الشدادي :
في زمن تتسارع فيه الخصومات، وتشتد فيه الألسن، يبقى باب العفو مفتوحا لمن أراد أن يعلو بنفسه، ويرضي ربه، ويطفئ نار الفتنة قبل أن تحرق القلوب.
لقد تقدم بعض الإخوة بشكاية ضد شاب من أبناء المدينة، فتم توقيفه، وهو اليوم بين يدي القضاء، الذي نثق في عدله ونزاهته، ليقول كلمته ويظهر الحق من الباطل.
لكننا نذكر بكل محبة وإنصاف أن هذا الشخص ليس ظالما ولا مدانا، بل هو مجرد متهم حتى يقول القضاء كلمته، ويثبت الحقيقة.
ومع ذلك، فإننا نفتح اليوم بابا آخر، لا يطرقه إلا الكبار، ولا يضع تاجه إلا من عظم حلمه واتسع صدره، إنه باب العفو والصفح.
قال تعالى:{وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا ۗ أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ}النور: 22
ولنا في تاريخنا نماذج من العفو تلهمنا، فالنبي ﷺ كان قمة في العفو والتسامح،
كم شتم، وطرد، ووضع سلى الجزور على ظهره، وأدميت قدماه في الطائف، ومع ذلك عندما أتاه الملك جبريل عليه السلام على أن يطبق على أهل الطائف الأخشبين قال عليه الصلاة والسلام : “اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون.”
وفي فتح مكة، بعد أن أوذي 20 سنة، قال لمن آذوه: “اذهبوا فأنتم الطلقاء.”.
كما أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه خاض مسطح بن أثاثة في عرض ابنته عائشة رضي الله عنها، فلما نزلت براءتها في سورة النور من سبع سنوات، أقسم أن يقطع عنه النفقة، فأنزل الله ” ولا ياتل أولو الفضل منكم والسعة أن يوتوا أولى القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم” النور :22، فقال أبو بكر: “بلى والله، إني أحب أن يغفر الله لي.” فعفا عنه وأعاد له النفقة.
وها هو الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله ضرب وسجن في فتنة خلق القرآن، وأوذي من بعض العلماء، فلما نصر، قال: “من عفا وسكت فهو أعقل ممن انتقم وشمت.”
أما عروة بن الزبير اتهم زورا، وقطعت رجله، وفجع بابنه في يوم واحد، فقال: “اللهم إن كنت أخذت فقد أبقيت، وإن كنت ابتليت فقد عافيت.”
كما نجد في عصرنا نماذج من العفو السياسي: نيلسون مانديلا سجن 27 عاما ظلما، فلما خرج، لم ينتقم، بل أسس لجنة الحقيقة والمصالحة، وقال: “العفو يحرر الضحية كما يحرر الجاني.”.
الملك محمد السادس نصره يصدر مرارا عفوا ملكيا عن من ينتقدون الدولة، وحتى والده الحسن الثاني طيب الله ثراه قال في حق خصوم الوطن من أعضاء البوليزاريو
إن الوطن غفور رحيم، فكان العفو رسالة قوة لا ضعف.
الرئيس عبد الله واد في السنغال، عفا عن خصومه السياسيين الذين سجنوه سابقا، وضم بعضهم إلى حكومته.
ومن هنا أقول لمن تقدموا بشكاية ضد هذا الشاب القصري، و من أجل الأسرة ومن أجل الله، إن من أخطأ في حقكم قد يكون نادما، أو جاهلا بعواقب فعله، لكن خلفه أسرة تنتظر، وزوجة مكلومة، وولدان صغيران لا ذنب لهما، يتقلبان بين الخوف والرجاء، بين دموع الأم وصمت الأب.
فلنفكر في من ينتظر خلف الأبواب، في طفل يسأل عن أبيه، في أم تخفي دموعها، في قلب يرجو الرحمة.
ولنكن ممن يحيي القلوب بالعفو، ويرضي الرب بالتسامح، ويعيد الأمل لمن ضل الطريق.
وأذكركم بمشهد من يوم القيامة يضحك الله له.
ورد في الحديث أن رجلا ظلم في الدنيا، فلما وقف بين يدي الله يوم القيامة، أمر أن يأخذ من حسنات من ظلمه، فلما انتهت، أمر أن يطرح عليه من سيئاته،
فقال: “يا رب، قد عفوت عنه.”
فقال الله: “أما إنك قد عفوت عنه، فأنا أعفو عنك.”
وفي رواية: “فضحك الله له، وأدخله الجنة.
فما أعظم أن تضحك لك السماء، لأنك عفوت في الأرض.
و خلاصة القول، العفو لا يلغي الحق، لكنه يعلي مقام صاحبه، ويرضي الله، ويحيي القلوب.
وسواء ثبت التعدي أم لم يثبت، يبقى العفو تاجا لا يضعه على رؤوسهم إلا الكبار، الذين يحبون أن يغفر الله لهم، فيغفرون للناس. “وما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا.” حديث شريف.