ذ . محمد الشدادي :
هداية، يا زهرة لم تكمل تفتحها، يا طيف البراءة الذي اختطف قبل أن يكتب أول حرف. رحلت في صمت، لكن صرختك ستبقى تدوي فينا.
وداعا صغيرتي، رحلت عن الدنيا، لكنك سكنتِ ضميرها إلى الأبد. يا ملاكا طهره لا يحتمل، اختطف من بيننا، فطارت روحك إلى السماء، وبقي وجعك في الأرض. هداية، يا طيف الطفولة، يا حلما لم يكتمل، أنتِ من طيور الجنة، واسمك سيظل منقوشا في قلوبنا.
……
لم تكن تعلم الطفلة هداية أن اللعب قرب منزل جدتها سيكون آخر لحظة من طفولتها. كانت تضحك، تركض، تلهو، وتخطط في خيالها الصغير لما ستفعله غدا بالمدرسة . لم يكن يخطر ببالها أن النهاية ستكون بهذا الشكل الوحشي.
طفلة في السادسة من عمرها، بريئة كنسمة خفيفة، كفراشة، تختطف، تغتصب، تعذب، وترمى جثتها في (غرسة).
أي وحش هذا؟ أي قلب هذا الذي لا يرتجف؟ أي عقل هذا الذي لا يصرخ؟
كانت تعيش مع جدتها، وفي مساء اليوم السابق لاختفائها، أبلغت الأم، التي تقيم في بلد أجنبي، باختفاء صغيرتها. أقلعت فورا في رحلة العودة، تحمل في قلبها القلق، وفي يدها الأمل. وفي هذه اللحظات، وهي في طريقها، لم تكن تعلم أن ابنتها التي كانت تظنها في أمان، قد تحولت إلى ضحية جريمة لا تغتفر. أي صدمة تنتظرها عند النزول من الطائرة؟ أي انهيار؟ كيف يمكن أن تدفن الحياة في لحظة؟
والمكان الذي عثر فيه على الجثة لم يكن في منطقة نائية أو مهجورة، بل على بعد خطوات من إعداديتين ومدرسة ابتدائية.
تخيل معي التلاميذ وهم يمرون بجانب المكان الذي عثر فيه على جثة طفلة في عمرهم أو اقل، وقد تعرضت لأبشع أنواع الاعتداء.
تخيل معي الأمهات والآباء وهم يرسلون أبناءهم إلى المدرسة في صباح اليوم التالي، والقلق ينهش قلوبهم، والخوف يقيد خطواتهم.
تخيل معي المدرسين وهم يحاولون تهدئة النفوس، بينما هم أنفسهم عاجزون عن استيعاب هول الفاجعة.
الحي الذي كان يربي، أصبح يرعب. المدرسة التي كانت تعلم، أصبحت تحاصر بالأسئلة: هل نحن في أمان؟ هل أطفالنا محميون؟ هل الجاني قريب؟ هل سيتكرر الأمر؟ الأطفال، الذين كانوا يركضون في الساحة، أصبحوا يحدقون في وجوه الغرباء بريبة، ويمسكون بأيدي أمهاتهم بخوف. الطفولة لم تعد تلعب في الشارع، بل تحبس في البيوت، خوفا من أن يخطف حلم آخر، من أن يغتال ضوء جديد.
وفي ظل هذا الرعب، لا يمكن أن نغفل عن الحاجة العاجلة إلى الدعم النفسي. التلاميذ في المؤسسات المجاورة لمكان وجود الضحية، وأطفال حي الضحية، يعيشون تحت وطأة الصدمة، وقد يترجم ذلك إلى اضطرابات في النوم، تراجع في التركيز، أو حتى رفض الذهاب إلى المدرسة. وهنا، يجب أن تتحرك النوادي المدرسية والجمعيات المحلية، من أجل تنظيم ورشات تفريغ نفسي، إشراك الأطفال في أنشطة فنية وتعبيرية، عقد لقاءات توعوية مع الأسر، والتنسيق مع مختصين نفسيين لتقديم جلسات جماعية. الدعم النفسي ليس ترفا، بل ضرورة، وهو جزء من العدالة التي يجب أن تشمل الضحية والمحيط معا.
حتى الأماكن التي مر بها الجاني، تتبرأ منه. كل تربة داسها، كل درب عبره، كل زاوية اختبأ فيها، تحمل بصمة الذنب وتلعنه. كأن الأرض نفسها لفظته، كأن الجدران التي مر بجانبها تذمه، كأن الهواء الذي تنفسه يضيق به. كل عشب تحت جثة الطفلة هداية، كل حجر شهد على صراخها، كل فراش اغتصبت فيه البراءة، يتنكر من الفعلة، ويصرخ في صمت: لا مكان لك بيننا. البراءة التي حلمت بها الطفلة، تتبرأ منه. الطفولة التي كان من المفترض أن يحميها المجتمع، تلعنه. حتى الصمت، لم يعد صامتا، بل صار شاهدا عليه.
وحتى الطيور التي كانت تحلق فوق الحي، غيرت مسارها. كل مخلوق حي، كل كائن بريء، كل نسمة، كل قطرة مطر، كل ظل شجرة، كل ثوب ارتدته هداية، كل دمعة سقطت من عينيها، كل قطرة دم سالت منها، كل صرخة دوت من فمها، كل نفس خنق، تدين هذا الفعل الجبان. الكون كله ينبذك أيها الوحش، يرفضك، يمقتك، يتبرأ منك. لقد ارتكبت جريمة لا تغتفر، لا في الأرض ولا في السماء، ولا في ضمير البشر ولا في وجدان الطبيعة.
في المغرب، كما في دول أخرى، تظهر بين الحين والآخر جرائم اختطاف واعتداء على الأطفال، تزلزل الضمير الجمعي، وتعيد طرح السؤال: هل نحن نحمي أطفالنا بما يكفي؟ وهل القانون ينصف الضحايا؟ وهل المجتمع يربي على الحماية أم على الصمت؟ رغم أن بعض التقارير تعتبر هذه الحالات “معزولة”، إلا أن تكرارها وتنوع دوافعها يجعلها تلامس حدود الظاهرة. من اختطاف من أجل الاعتداء، إلى استغلال الأطفال في التسول، أو حتى المتاجرة بالأعضاء، تتعدد الأسباب، ويبقى الضحية واحدا: الطفل.
القانون المغربي يجرم هذه الأفعال ويعاقب عليها بعقوبات مشددة، خاصة إذا اقترنت باعتداء جنسي أو قتل، لكن رغم ذلك، يجب تطبيق أكثر صرامة، وتفعيل آليات الحماية الوقائية، مثل التوعية، الرقابة، والتبليغ الفوري. الردع القانوني وحده لا يكفي، إن لم يرافقه وعي مجتمعي، وتربية على احترام الطفولة، ومؤسسات تراقب وتتابع وتؤطر.
غالبا ما يكون الجاني يعيش في محيط الضحية، ما يعقد فهم الدوافع. في حالات كثيرة، يكون الجاني مراهقا، أو يعاني من اضطرابات نفسية، أو يعيش في بيئة عنف وإهمال. وهنا، لا بد من طرح السؤال: هل نحن نربي أبناءنا على ضبط النفس، على احترام الآخر، على فهم الحدود؟ أم نتركهم عرضة للتشوهات النفسية التي تنفجر لاحقا في وجه الأبرياء؟
العديد من الجرائم الوحشية، خاصة تلك التي تستهدف الأطفال، ترتبط ارتباطا وثيقا بتعاطي المخدرات والأقراص المهلوسة، التي تحول الإنسان إلى كائن فاقد للسيطرة، منزوع الضمير، لا يفرق بين الجريمة والمتعة، ولا بين الإنسان والشيء. هذه المواد، التي تباع في الأزقة، وبالقرب من المؤسسات التعليمية، وتستهلك في الظلام، وتحول الإنسان إلى آلة عنف لا تعرف الرحمة. في أحياء مهمشة، تعاني من الفقر والبطالة، تجد هذه السموم مرتعا لها، وتغذي جرائم القتل والاغتصاب والاعتداءات العنيفة، خاصة بين المراهقين المنقطعين عن الدراسة، الذين يجدون فيها مهربا من الواقع، لكنها تحولهم إلى قنابل موقوتة تهدد أمن المجتمع.
المخدرات لا تقتل فقط الجسد، بل تخرب الضمير، وتطفئ نور العقل، وتحول الإنسان إلى مخلوق منفصل عن إنسانيته، لا يبالي بالألم الذي يسببه لنفسه ولغيره، ولا يدرك فداحة ما يرتكبه.
وهنا، لا يكفي أن ندين الجريمة، بل يجب أن نواجه جذورها، بتجفيف منابع بيع المخدرات وتوزيعنا، وتفعيل دور المجتمع المدني في التوعية والمراقبة، وإدماج الشباب في مشاريع تنموية تعيد لهم الأمل، وتوفير مراكز علاج الإدمان في المناطق الهشة، وتشديد الرقابة الأمنية على النقاط السوداء لترويج هذه السموم.
كل طفل يختطف، يغتصب، يقتل، هو جرح في جسد الوطن. هو إعلان فشل في التربية، في الحماية، في القانون، في الضمير. ولا يمكن أن نواجه هذه الجرائم بالصمت، أو بالعبارات العابرة، بل نحتاج إلى تربية وقائية داخل الأسر والمدارس، وخطب الجمعة ، وأنشطة المجتمع المدني، حملات توعية مستمرة في القنوات العمومية، دعم نفسي للأطفال والمراهقين، تشديد الرقابة على الأماكن العامة، وتفعيل دور الإعلام في فضح الجريمة لا تبريرها.
فحين تغتال الطفولة، لا يكفي أن نغضب، بل يجب أن نتحرك. حين تقتل هداية طفلة القصر الكبير، أو أي طفل آخر، يجب أن نعيد ترتيب أولوياتنا: الطفل أولا، الحماية أولا، التربية أولا، والعدالة بلا تردد. فلنربي أبناءنا على الرحمة، ولنطالب بقوانين لا ترحم من يعتدي على الطفولة. ولنخلد أسماء الضحايا لا في صفحات الجرائد فقط، بل في ضميرنا الجماعي، حتى لا ننسى ، وحتى لا يتكرر.