
ذ. محمد الشدادي:
كان رشاد تلميذا نجيبا في السنة الثانية إعدادي، يحب الرياضيات، ويشارك في الأنشطة، ويحلم أن يصبح مهندسا.
أساتذته كانوا يرونه مشروعا ناجحا، يشجعونه، يكبرونه، ويأخذون بيده نحو الاجتهاد.
لكن حين بدأ يرافق مجموعة من الأصدقاء الذين لا يهتمون بالدراسة، تغير كل شيء.
في البداية، شجعوه على الغياب، ثم على التدخين، وبعدها جرب معهم ما هو أخطر، مواد تطفئ العقل وتشوه الحلم.
تدهور مستواه الدراسي، كثرت غياباته، رسب، ثم انقطع عن الدراسة تماما.
بدأ يعمل في الحقول، لا حبا في الزراعة، بل بحثا عن المال الشرهاء ما يسكته داخليا من سجائر ومخدرات.
كان يستيقظ قبل الفجر، يحمل المعول بيدين كانتا تكتب بالأمس بالقلم، ويقضي ساعات طويلة تحت الشمس، يحرث الأرض، يسقي المزروعات، ويعود منهكا، بثياب متسخة، ووجه شاحب. لم يعد يبتسم، ولم يعد يكتب شيئا.
حتى ملامحه تغيرت: عيناه مطفأتان، وظهره انحنى قليلا من التعب، رغم أنه لم يتجاوز السادسة عشرة من عمره.
وفي صباح ربيعي، وبينما كان يسقي الأرض، لمح وجها مألوفا يقترب منه، إنه الأستاذ نورالدين، أستاذ الرياضيات الذي كان يشجعه دائما، اقترب منه وقال: ياسين اشتقنا إليك في القسم، الأرض جميلة، لكنك ولدت لتزرع شيئا آخر، ولدت لتزرع المعرفة.
وبتنسيق مع نادي التربية على القيم والسلوك المدني، الذي يشرف عليه الأستاذ نورالدين، بدأت رحلة العودة.
عاد رشاد إلى المدرسة، واستعاد ثقته بنفسه، وبدأت ملامحه تتغير: عادت الابتسامة، وارتفعت رأسه، وصار يلقب بين زملائه بـالعائد من الحقول.
لكن ياسين لم يكتفِ بالعودة فقط، بدأ يفكر في أصدقائه الذين انقطعوا عن الدراسة، وفي باقي التلاميذ المنقطعين في القرى المجاورة.
فبادر بتأسيس نادي العودة من الحقول، بتنسيق مع الأساتذة والإدارة، ليكون منبرا يعيد الأمل لمن فقده.
وجعل من أهداف النادي:
– التواصل مع التلاميذ المنقطعين في مختلف القرى
– تنظيم حملات تحسيسية داخل وخارج المؤسسة لتشجيع التعلم،
– إشراك ممثلين عن كل قرية يدرس أبناؤها في الثانوية القروية في مشروع النادي ،
– تقديم الدعم النفسي والتربوي للمنقطعين
– ترسيخ شعار النادي: العودة من الحقول…بداية جديدة لا نهاية مؤلمة.
وفي بداية كل موسم دراسي، كان رشاد وبعض أعضاء النادي ينظمون زيارات ميدانية إلى القرى المجاورة، يلتقون بالتلاميذ المنقطعين، يفتحون معهم حوارات صادقة، يصغون إليهم، ويشجعونهم على العودة إلى القسم.
كما كانوا يخصصون وقتا لمصاحبة التلاميذ الذين يظهرون علامات الغياب المتكرر، ويحسون أنهم على وشك الانقطاع، فيرافقونهم، يشجعونهم، ويعيدونهم إلى المسار قبل أن يغادروا بلا رجعة.
وصار رشاد، الذي كان بالأمس منقطعا عن الدراسة، اليوم ملهما، يلقي كلمات في الأنشطة، ويزور القرى المجاورة، ويشجع كل من فقد طريقه على أن يعود.
وفي نهاية السنة، وقف رشاد أمام الجميع في الحفل الختامي، وقال: أنا لم أعد فقط إلى المدرسة، أنا عدت إلى نفسي، ومعي حلم لكل من ظن أن الحقول نهاية الطريق.
ولم تكن هذه القصة لتكتب لولا وجود تلك الثانوية القروية التي أسست في قلب المنطقة التي تضم ثلاث جماعات، والتي غيرت وجه الحياة فيها.
حيث كانت المنطقة قبل هذه المنشأة التربوية تعيش في ظلال الجهل، وكان الانقطاع عن الدراسة أمرا مألوفا، والطموح يعتبر ترفا لا يتاح للجميع. لكن مع فتح الثانوية، بدأ النور يتسلل إلى البيوت، وبدأت أنوار المعرفة تزيح عتمة الأمية، وتعيد تشكيل أحلام الشباب.
تحولت المؤسسة إلى منارة حقيقية، لا تعلم فقط، بل تربي، وتوجه، وتصغي.
ومن بين جدرانها خرجت مبادرات مثل نادي “العودة من الحقول”، لتثبت أن المدرسة ليست فقط مكانا للدراسة، بل فضاء للنجاة، ولإعادة بناء الإنسان.
وبفضل هذه الثانوية، أصبح أبناء المنطقة يحصلون على شواهد عليا، ويتابعون دراستهم في الكليات والمعاهد، ويعودون إلى قراهم بشهادات وقلوب مملوءة بالأمل، و يحصلون على وظائف: منهم الأستاذ، الطبيبة، والدركي، الممرضة، والصيدلي..
ورحم من قال: “عندما تبنى المدرسة، فإنك تستثمر في الإنسان، وتنمي المنطقة.”
وختاما يوجه رشاد دعوة إلى كل من يحمل قلبا تربويا حيا.
من قصة رشاد، ذلك التلميذ الذي عاد من الحقول حاملا حلما لا يخصه وحده، ولدت فكرة، ثم تحولت إلى مبادرة، ثم أصبحت مشروعا ينقذ زهورا كانت تذبل قبل الأوان.
اليوم، نوجه الدعوة إلى كل أستاذ يرى في تلميذه بذرة أمل، لا ورقة غياب، إلى كل تربوي يؤمن أن المدرسة ليست فقط مكانا للتلقين، بل فضاء للإنقاذ، ولإعادة بناء الإنسان. وإلى كل تلميذ ذاق مرارة الانقطاع أو رأى زميلا يتسلل خارج القسم، أن يبادر، أن يؤسس، أن ينقذ.
ندعوكم لتأسيس نواد تربوية في مؤسساتكم، تحمل شعار:
“العودة من الحقول… بداية لا نهاية”َ وتجعل من كل منقطع مشروع عودة، ومن كل غائب فرصة لقاء، ومن كل زهرة ذابلة حديقة أمل.
فليكن في كل ثانوية، وفي كل قرية، صوت مثل صوت رشاد، وأستاذ مثل نور الدين، وناد مثل “العودة من الحقول”.
لأننا لا نعلم ونتعلم فقط نحن نحيي.