
ذ. ادريس حيدر :
كانت الحرارة مرتفعة جدا خلال شهر غشت من هذه السنة .
و في إحدى أيامه فاقت 46 درجة ، حيث تصبب العرق من كل مسام جسدي ، و تبللت ملابسي ، بل و التصقت به ، مما زاد في ضجري و مللي و سأمي .
شعرتُ نتيجة لهذه الحالة ، بالضيق و بِصُعُوبة ٍ في التنفس لدرجة كنتُ أكاد أَخْتَنِق .
فقررت إذن ، و للتملص من هذه الأجواء الصعبة ، التوجه إلى أقرب شاطئ لمدينتي المهمشة و المهجورة ، و ذلك قصد أخذ قسط من الراحة ، و بحثاً عن أجواء رطبة تخفف ثقل و قساوة الحر الذي لم أعُد أُطيقه.
حَمَلتُ متاعي ، و توجهتُ حيثُ أبتغي .
و بمجرد وصولي إلى الشاطئ ، اخترتُ مكانا بعيدا عن المصطافين و ضجيجهم .
ثَبَّتُ مظلتي ، و وضعتُ منديلي تحتها ، و نشرتُ جسمي المتهالك فوقها ، لعلي أتفيأ بظلها .
انتعشتُ بنسائم البحر التي كانت تهب خفيفة ، و برائحته الخاصة ، التي جعلت ذاكرتي ترتد بي سريعا إلى الأيام الخوالي و العطل الجميلة ، التي كنتُ أقضيها بصحبة أفراد عائلتي أحيانا و بمعية الأصدقاء في أحايين أخرى .
خَلَعْتُ ملابسي إلا من سروالي القصير ، فشعرتُ براحة أكبر و ارتياح أكثر .
تمددتُ ، و أخذتني غفوة من النوم ، أيقظني منها طنين بعض الذباب ( الذي أكرهه) الأزرق الكريه ، و الذي بدأ يلف حولي .
حاولت إبعاده بالنش عليه بواسطة قميصي ، إلا أنه لم يبتعد ، بل ظل يقوم بنفس المناورات ، ثم يعود و يحط فوق مناطق حساسة من جسدي و يوكزني فيها ، و كانت لذغاته قوية و مؤذية .
و بينما كنتُ منشغلا بإبعاد ذلك الذباب اللعين عني ، سمعتُ هذه المرة أزيز نحلتين ، كانتا تعلوان جسدي ، فحاولتُ رَدَّهُما كذلك ، لأنني كنتُ أتوجسُ خيفة من أن تلسعني إحداهما ، على اعتبار أن جسمي كثير الحساسية للسعات النحل .
ابتعدتُ بعض الشيء عن المكان الذي كنتُ أحط به ، درءا لخطورة تلك الكائنات و للضرر الذي يمكن أن تلحقه بي .
و ما هي إلا لحظات ، حتى رجعت النحلتان لمضايقتي ، و حاولتُ إبعادهما كما فعلتُ مع الذباب الأزرق ، إلا أنني لم أفلح ، حيث ظلتا تلفان و تحومان حولي .
و فجأة لسعتني إحداهما في أذني التي تقع بالجهة اليسرى من رأسي .
و بينما كنتُ منشغلا بما حدث ، حتى قامت النحلة الثانية بنفس فعل الأولى ، لكنها لسعتني هذه المرة تحت وجنتي اليمنى .
رفعتُ صوتي عاليا ودون أن أشعر ، و صحتُ :
” ما هذا !…لم تختر هذه الكائنات في هذا الشاطئ الشاسع و الفسيح و الممتلئ بالمصطافين سواي …”
كنتُ قد فقدتُ صوابي .
و بعد برهة انتفخت أذني ، و أخذت حجما غير عادي ، كما أن وجنتي اليمنى تورمت و لم أعد أرى شيئا .
و أصبحتُ أبدو ك : “بهلوان” تائه بدون مساحيق .
و بينما كنتُ أرغد و أزبد ، فاقدا لإدراكي و شعوري ، أثار انتباهي أحد المصطافين ، الذي تأثر لحالي ، إلى كوني أتواجد في مكان طُمِرَتْ فيه ، بقايا أكل و أزبال من طرف أحد المستجمين أو من طرف عائلة برمتها بعد فراغها من الأكل ، و هي التي استقطبت الذباب و النحل .
غضبتُ كثيرا من هذه المسلكيات الرديئة لبعض المواطنين ، و أدركتُ أنه و نتيجة لما وقع لي ، فإني أعيش لحظات صعبة ، ملؤها السخط ، الانفعال و الضيق .
انتصبتُ واقفا ، و لعنْتُ البحر و الرمل و الموج و الذباب و النحل و الإنسان و العالم ، و هرولتُ بعيدا عن ذلك المكان ، تاركا أمتعتي ، و محاولا الإفلات من مخاطر ، قد تنتظرني ، و يمكن أن تُلحق بي أضرارا جسيمة أخرى .