المبدع والمتلقي (اختلاف أم ائتلاف ؟ )

3 سبتمبر 2025

– الاستاذ : عبد الحميد الزفري

أتدري لماذا المرآة أحيانا لا تريك وجهك بوضوح ؟ لأنه لم يجل عن وجهها الصدأ. فاحذر سحر ما قد توحي به إليك من المغالطات التي قد تصل بك إلى السقوط في أخطاء رهيبة تفتقر معها إلى قراءة استكناهية للأغوار العميقة لما تتناوله في دنيا الثقافة والفن: قولا أو كتابة. وحتى نتحاشى أية نبرة وعظية جراء الصورة الكابية المفعمة بالمرارة لهذا الموران الذي لا يهدأ لشأننا الثقافي والفني المحلي، فإنه يحتاج إلى أكثر من التفاتة، إذ الكلام هو علاقة وفاعلية ترابط من وإلى، به يكون توازنك ضد الإقصاءء والغياب.

عليك أن تمتلك الوسائل المساعدة لدحر مظاهر التردي التي آل إليها بفعل هيمنة روح الانتهازية وتعالي النزوع المادي الصرف على الاستجابة البناءة من التقدم الكوني الجاري حولنا.

إن كتاباتنا ومواقفنا أصبحت ذات منزع زئبقي تتشكل بحسب المصالح الخاضعة في الغالب لمنطق ( ما تعاظم أحد على من دونه إلا وتصاغر أمام من فوقه ) الوعاء الذي يفضح صاحبه هو لغته. إنها وسيطه بينه وهذا العالم الذي يرصده من خلال عمل إبداعي أو تحليل نقدي أو تشكيل فني…

كنا نحاول دوما النفور من الإنصات السلبي لهذا الأدب الناشئ والمتزايد في مدينتنا، والذي لازالت قراءته في معظمها طفيليىة انتقائية لآليات نقدية لا تتناسب وحجم ومستوى النصوص، قافزة على مواطن العلة إلى أن تنتهي عند الأحكام التضخيمية العقيمة بدل الحياد الموضوعي الذي بلا ريب يكون فعالا في حياة من يمثل هذا الأدب الناشئ، به يمتلك قدرة على انبات زهرات يانعات تعبق بها ثياب من يقرأونه، لأنهم يعترون فيه عن توازن ( هارموني ) جمالي ودلالي بيت مدركات الواقع الموضوعي الذي رصده أصحابه شعرا أوسردا أو عرضا مسرحيا: تأليفا أو إخراجا… وبين ملكات المبدعين واختاراتهم الذاتية التي يقومون بها داخل مختبراتهم الخاصة بهم وعبر أدواتهم وتجاربهم وثقافتهم ومواهبهم، لبناء لحظة وجودية، تطلبت منا في مناسبات عدة القيام بحوار مع منجزاتهم بواسطة سؤال وجواب حتى كنا نصل في النهاية إلى الكشف إزاء غالبيتها عن تجربتنا الوجودية مع هذا العالم المنبني على مجموعة من المتناقضات.للأسف كما قال الشاعر:

( على قدر أهل العزم تأتي العزائم ) إذ البعض الآخر يلاحظ عليه الاستسهال الخطير في الكتابة، والعجلة في الخروج السافر بها على القراء والمتتبعين. لهذا لا يكون لها رجع الصدى ( فيدباك ) الذي يحلم به هؤلاء فتنقلب على ذاتها دون أي تأثير، أو يتم التخلص منها بصورة مجانية حتى لمن لن يقرأها، فيلجأ إلى أن ينهال على أصحابها مجاملة بأحكام تتناسل عنده كالفطر أو الفقاقيع لا يفقه حتى معاني الكلمات المستعملة في الغالب، وهو ما يجعل أصحاب النفوس الضعيفة من يتخيلون ذواتهم ( أشبه ببلورات ثلجية خاصة فريدة من نوعها ) كما قال مارك مانسون في كتابه

( فن اللامبالاة ) محتاجون ونحن معهم إلى التعليقات الجارحات والتنبيهات الرصينة ذات الطبيعة الحيادية والموضوعية، تملا مشروع أي منا بزخم يصحح مساره حتى يجعله غير خائف من تداعيات خياراته الفنية الجمالية وقناعاته الفكرية لأنه أسسها عن وعي بمقروئه الذي أذابه حتى اعتصر منه رحيقه الخاص متسلحا بالصبر كسند قرائي، لأنه لا سبر بدون صبر. وفي ذات الوقت محجما عن اختيارات أخرى لا تناسبه، لأنها قد تغريه فيختبئ في حفرة حالكة الظلمة صنعها لنفسه، فصيرته عديم الاحساس بمن يشاطرونه نفس هموم قضاياه. على خلاف الذي انطلق من واقعه وارتاد خياله لتشييد جملة من العوالم الممكنة، محاولا عبر تساؤلاته اجلاء بعض الالتباس عن الحقيقة وأسرارها. كله حماس فس اكتساب قدرة على بناء نص متسم بالجدة والعمق في دلالته. نافخا في شرايينه سحره التخيلي ليغوص في سديمه الداخلي كذات تفضح من غير محاباة أو زيف, متوسلا بلغة سليمة لا لقدسيتها، ولا بتلك التي استبيحت ضوابطها بدعوى التجديد، فتحولت الأخطاء إلى شيء عادي،

و فوضى الإبداع حداثة أو سمها ما شئت توقا إلى نحت لغة خاصة بدافع هوس الجديد. هذا الطموح الذي كان يقود في الغالب ( إلى بهلوانية لغوية ) على حد تعبير الدكتور برادة.

تأسيسا على هذا الوضع المؤلم أصبح رهاننا أكثر من أي وقت مضى أن نسهم في ولادة مبدع وقارئ جديدين ليسسا أسيرين لإنجاز هدهده كسل الزمن الردئ، وذلك لبناء مشهد ثقافي وفني ناضج يتقاسمان معنا الواقع نفسه. هما الرهان الذي نصبوا إليه في مغامرتنا المفتوحة على ردم ما آلت إليه أوضاع الثقافة والفن في مدينتنا من أجل انخراط الجميع في أتون الجديد الذي بإمكانه أن يفعل فعله فينا، حتى نندغم حقا مع التطورات المتسارعة في شتى المجالات فنقوى على لملمة تشظياتها في نسيج شامل وغني من حيث التنوع في المعارف والمواقف والتجارب. نطرح منها ما هو متخلف ومتجاوز ونبني على أساسه ما هو فعال، يتم توظيفه توظيفا مبدعا خلاقا به نعثر عن مكان آمن تحت الشمس، نزاوج فيه بين المادة والروح وقاية من انطحان مجتمعنا بواسطة آلة الحضارة المعاصرة التي لا تراعي في الإنسان إلا ولا ذمة جراء تعرض مصالح متزعميها لأي تهديد. فما من مجتمع لا يستطيع تحصين قلاعه الثقافيى والفنية والخلقية والمادية إلا بالعودة المتاخمة للموروث في صورته البناءة وفي الوقت ذاته الانفتاح على ضرورة التفاعل بندية مع الآخر في شتى عطاءاته تفاديا لأي انغلاق قد يؤدي حتما إلى تكلسنا وتناسل التفاهات بيننا. أنى لنا وما قاله بشار بن برد في تحد للآخرين وكان فاقدا لبصره:

أنا الذي نظر الاعمى إلى أدبي

وأسمعت كلماتي من به صمم

لا نطمح إلى الإنصات لرجع الصدى، ايجابيا كان أو سلبيا ف ( العنجهية ) قد استحكمت فينا والكلمة الصادقة كانت دوما مرة مرارة الحنظل، لا يستسيغها ذوو النفوس الملتهب طمعها أو المتملقة في صغار لقضاء مآربها وهي تحسب أنها تحسن صنعا.

آن لنا أن نبدد ما نحن فيه من التمزق والانقسام ونقبل على الوحدة والانسجام واقفين مع الشاعر الجاهلي لبيد بن ربيعة حين قال:

ما عاتب المرء الكريم كنفسه

والمرء يصلحه الجليس الصالح

ربما بعد هذا الطرح أن تنضم إلى رهاننا أنت أيها الكريم بهدف خلق لحمة اجتماعية قادرة على توليد تحول يتجاوز انسداد مجالنا الثقافي والفني ضمن طوقه المناسباتي بتفكيك بنيته الأحادية حتى ننفتح جميعا على المحتمل المؤسس لرؤية جديدة مفعمة ببدائل آمال عريضة تتشيد وسط هذا السديم من تناقضات حاضرنا المأزوم. فندفع بإبداعاتنا في مختلف المجالات إلى الخروج من الاتكاء على الجاهز المتسرع من غير استيعاب لخصوصيته بحثا عن فضاء شاسع مثمر مدهش لا حدود لاحتمالاته، تكون ثرية في أحايين كثيرة كفيلة بأن تبعدنا عن أن نتجنح بالوهم، هذا روائي مائز وذاك شاعر باذخ والآخر ناقد أكاديمي… وهكذا دواليك

عذرا مرة أخرى ( قالها حنظلة ومضى ) ليس مضيا نهائيا من غير عودة فعلى إثر أي حدث مهما كان حجمه يقول حنظلة كلمته ويمضي مدير ظهره كي يقولوا رأيهم همسا أو صراخا أو أن يصموا آذانهم.

اختر ما شئت من قول الشاعر أبي ذؤيب الهدلي:

والنفس راغبة إذا رغبتها

وإذا ترد إلى قليل تقنع

اترك رد

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

الاخبار العاجلة

نستخدم ملفات الكوكيز لنسهل عليك استخدام موقعنا الإلكتروني ونكيف المحتوى والإعلانات وفقا لمتطلباتك واحتياجاتك الخاصة، لتوفير ميزات وسائل التواصل الاجتماعية ولتحليل حركة الزيارات لدينا...لمعرفة المزيد

موافق

اكتشاف المزيد من أخبار قصراوة العالم

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading