
ذ . ادريس حيدر :
لقد كبرتُ و ترعرعتُ في حضن اليسار ، حيث نهلتُ – كغيري من مناضليه – كثيرا من القيم ، من مخزونه الفكري و النظري و من ممارساته الفضلى .
و من المعلوم أن كل التنظيمات السياسية في المغرب و العالم كانت اليسار قد اجتاحها و احتلها لزمن غير يسير ، كما ارتقى إلى ركح السياسة في كل أرجاء المعمور تنظيرا و ممارسة .
و كان بروزه ، قد بدأ عقب الحرب العالمية الثانية . لكن زمنه المضيء ، كان في السبعينات و الثمانينيات من القرن الماضي .
و كان العالم أنذاك يشهد صراعا بين القطبين العالميين : الولايات المتحدة الأمريكية و الاتحادي السوفياتي( المنهار ) ، و انعكس بشكل قوي على حركات تحرر الشعوب من الاستعمار و كذا اندحار أمريكا في :” الفيتنام”.
و صاحب ذلك صراعات و حروب في كل أرجاء الكون ، و التي كان أغلبها من تجليات ذلك الصراع الذي كان قائما أنذاك بين القوتين العظميتين .
و في وطننا كانت الصراعات ذات طبيعة طبقية ، و محتدمة بين القطب اليساري بكل تنظيماته و تمظهراته و بين النظام الحاكم ذو التوجه اليميني و المتحالف داخليا مع الإقطاع و الكومبرادور و اليمن المتطرف و خارجيا مع القوى الغربية الاستعمارية .
و كانت تتخلل المشهد السياسي صراعات حادة و مناقشات سياسية و نظرية غير منتهية .
و ما كان يثير الانتباه و يُلْفِتُ النظر ، هو أن التنظيمات اليسارية كانت عبارة عن مشتل لكفاءات فكرية و معرفية .
و في تلك الأجواء المحمومة ، كانت تطفو على السطح بين الفينة و الأخرى بعض الممارسات الغير السليمة ، مثل : الإقصاء، الإرهاب ، التعصب …الخ بل و نعت الآخر المختلف بنعوت و صفات تحقيرية ، و اتهامه أحيانا بالتواطئ ، الخيانة ، الوشاية ، الإبلاغ …الخ .
تلت هذه المرحلة بروز الحركات ذات المرجعية الإسلاموية على الساحة السياسية و الاجتماعية ( الكليات ، الشواطئ ، المظاهرات …الخ ) ، نظرا لظروف متعددة ، ليس هذا الحيز مجالا للتطرق لها .
و لم تكن الممارسة بداخلها تقل عن تلك التي كانت تمور في حضن اليسار ، بل كانت أكثر عنفا و إرهابا و فاشيتية ، و استعمل السلاح من أجل تصفية و قتل أعلام وازنة و مناضلة فقط لكونها آمنت و اقتنعت ، أنها تهددها من حيث قوة التفكير و التنظير و الإقناع و الفعل النضالي ( عمر بنجلون) و بالتالي التقت تخطيطاتها و مؤامراتها مع مخططات الحكم المستبد .
يقينا أن مناضلي التنظيمات المشار إليها أعلاه ، و خاصة اليسارية ، قدمت تضحيات جلى تمثلت في : الاستشهاد ، التصفية الجسدية ، الزج بهم في السجون ، التعذيب ، الطرد من العمل و التجويع …الخ .غير أن من بين النقائص داخل البعض منها ، أنه تم وأد الممارسة الديمقراطية و حرية التعبير .
و بذلك تعطلت آليات : الحوار ، الاختلاف ، حرية الرأي …الخ .
و بانحباس الفعل السياسي في البلاد و تآكل بعض التنظيمات اليسارية و عجزها عن الإجابة عن سؤال محوري ، خاصة بعد انهيار الاتحاد السوفياتي ، ألا و هو :
ما العمل ؟
قررتُ على إثر ذلك ولوج المشهد الحقوقي و الاشتغال فيه ، و اخترتُ الانضمام إلى منظمة العفو الدولية – فرع المغرب- .
و في هذا التنظيم الكوني ، تعلَّمْتُ ما لم أَكُنْ أعلم ، و ذلك كما يلي :
– التعبير عن الرأي بكل حرية و بهدوء و احترام الآخر ، تنزيلا لمقولة :” افتح فاك”
– الإيمان بأن المرء لا يملك الحقيقة المطلقة ، و أن الآخر يحوز ربما جزء أساسيا منها .
– الاختلاف الرحيم ، الذي يغني الفعل الحقوقي .
– تقديم وجهات النظر أو التدخلات بعقلانية و بأهداف دون الإطالة غير المفيدة و المُنْهِكة .
– احترام الآخر و عدم التشويش على قناعاته المعبر عنها .
– احترام الزمن و تدبيره بشكل جيد و الانضباط له .
– الوداعة و الرقي في الممارسة بُغْية تَجْوِيدها .
اكتشفتُ ، إذن ، أن هذه المسلكيات و غيرها ، هي عماد التقدم و التطور في كل المجالات .
و تأسيسا على ما سبق أُجْزِمُ بأن فضيلة الحوار و ممارسة الاختلاف الرحيم ، يُجنبُ الديمقراطية مطبات سلبية ، و يساهم في تقويتها و تكريس قيم مُثلى و فُضْلى .