بقلم : أسامة الحنشي
دائما ما كنت أومن بأن للأمكنة سحرها .. وللأزمنة سحرها وعندما يجتمع سحرهما معا ..يتلاقحان ..ينصهران ..تطل النشوة من نتوءات الصخور..ويزغرد العطربنسمات تغمر الفضاء… وتفيض عيون السعادة استشراقا للحياة..ولا أنكر أن العلاقة بين الزمان والمكان هي علاقة يمكن أن أصفها بالمشاكسة لأنها علاقة سرمدية منذ الأزل وإلى الأبد.. بفعل تجددها الذي لايعرف الخمول ولاالخمود ..فالليل يتناوب مع النهار..والفصول تتوالى في دورة محكمة.. والأمكنة تتجدد هي الأخرى بفعل البناء والهدم .. التطويروالتدمير أو بفعل قسوة الطبيعة الجامحة ..ربما هي صورة تجريدية للتفاعلات العلائقية الزمكانية.
فجدليا حياتنا قائمة على بعديها الزماني والمكاني..نحن كمخلوقات لنا أعمار قدرها الله لنا نعيشها بحلوها ومرها..بشقائها ولحظات سعادتها.. ولنا مساحات مكانية نعيش فيها طوال هذه الحياة ..والإنسان بذلك خاضع لظروف الزمان والمكان حتما..وعندما نخضع لفعل التأمل نكتشف أن الزمن يحدد لنا بعدين آخرين ضمن مجاله هما حاضر وماضي وفي تلك المسافة الفارقة بين البعدين تكون كل اهتماماتنا ..وانشغالاتنا مرتبطة بالبعد المكاني ..حيث ننهزم وننتصر..نشقى ونسعد..نموت ونحيا..نصمت ونصرخ..نخضع ونثور..فالحاضر المكاني هو الذي الذي يدعم نجاحاتنا.. يلملم إخفاقاتنا..يشد على أيادينا.. أويغمرنا بكرات الثلج لتخفف من حالات فشلنا.. فيدفعنا الإحساس للبحث عن أمكنة أخرى .. تدفعنا للتأقلم و التلاؤم مع ذواتنا.. ونفس الشيء بالنسية للبعد الزماني.. فإذا كان المكان يتيح لنا فرصة الإبداع والإنتاج والخلق.. يبث فينا تلك الجرعة السحرية التي تمنحنا الهدوء والطمأنينة والراحة النفسية نتيجة وجود مقومات مهيأة سلفا.. فبالمقابل يكون الزمن قد انفلت منا بفعل تراجع الصحة والقدرة غلى الصبر والتأمل والعناء..وبذات الوقت فالمكان ليس ماردا أو مخلوقا أسطوريا سيسمح لنا بتلبية رغباتنا ..لأن المكان له استحقاقاته هو الآخر.. ولن ينتظراختفاء تردداتنا ومخاوفنا..وشكوكنا..وعجزنا..وخمولنا.. ليمنحنا تذكرة الوصول في الزمن المناسب.
جميعنا نعمل في الحاضر ونخطط للمستقبل ونحاول تجاوز الماضي علما بأن الفرق بين الماضي والمستقبل هو خيط دقيق رفيع ناعم.. اسمه الحاضر.وهذا الحاضرهو من يحدد من نكون.. وحتى نعلن عن حقيقة هويتنا المبدعة نحتاج الى بعد مكاني تتمظهر من خلاله هذه الهوية..وعن بعد زماني يؤصل لهذه الهوية المبدعة.. فالهوية مرتبطة بما نحققه وننتجه ونخرجه للوجود من عدم بطرق فنية استثنائية..وحتى تكون هويتنا طبيعية تجمع بين الفطرة والتجربة والإبداع لابد من التمسك بالبعد المكاني والبعد الزماني تجنبا من امتلاك هوية غير ناضجة غير بينة المعالم..فالبعدان معا يعكسان احتيجاتنا الشخصية الإبداعية .ويسندان طموحاتنا ورغباتنا..وبالتالي يقويان قدراتنا..وهي مقومات كلها داعمة لمسيرتنا الإبداعية في هذه الحياة.
اريد أن أقول أني مرتبط بالأمكنة ..ملتصق بالأزمنة..في تفاعل دائم معها..
لأن المكان عندي ..إفراج عن خبايا المستقبل وذاكرة لايعتريها التلف.. وأعتقد أن المكان ليس النموذج الأوحد الذي تحدده سلفًا ساحة أوبيت أوحي أو عمران، المكان هو تجربة وانتظار من خلاله أرى العالم حولي أخاطبه وأناجيه وأبوح له وأكشف له عن دواخلي.. أتذوق مرارة الحنظل.. وأتنفس ضوع الياسمين.. وما وماأحسه هو ذلك الشعور الذي يمنحي القوة والقدرة على خلق أمكنة داخل عمق المكان الواحد ..وأرسم له أبعادا جديدة..في عالم شاسع من الرؤى والتأملات والخيالات.. تمثلات وفضاءات إبداعية هي بمثابة منفذ وملاذ للهروب من جحيم الحيّز الواحد ..
بعض الأمكنة التي عانقتها وأنا طفل كانت تبدو بسيطة عاديّة لكن عندما أستعيدها ذاكرة ..تذب فيها الحياة ..ونفحتي الشعرية تلبسها رداء الجمال..من حريرودانتيل مزركش بألوان الكلمات ..وتعطرها برذاذ الياسمين ..أمكنتي في القصيدة.. أنا مشدود إليها غريزيا .. فالمكان منقوش بعمق الذاكرة..محفور بداخلي الجوّاني أتمثله روحا.. كماأن المكان يثبت كيانه في فضاءات نصوصي جهرا لاتخفيا وراء الرمزيات.. فارضًا حضوره بقوة الارتباط ..بقوة التأثير والتأثر..فهو المعول الذهبي الذي يشق بحنو ورفق ووداعة صخرة الحياة .ضمن بعد زماني يمزج بين الواقع والخيال..
أعرف أمكنتي وأزمنتي مثلما أعرف رائحة ترابها.. وتقاسيم فصولها.. وجمالية ألوانها ..بل أسمع همسها وأناجي غيابها .