د . خالد الصمدي
عديدة هي محطات الإصلاح الجامعي التي ارادت فيها الجهات الحكومية المعنية والفاعلون الاقلاع بالجامعة المغربية في ضوء المعايير والتجارب الدولية في التكوين والبحث العلمي والاستقلالية والحكامة في التسيير والتدبير ، لتجد أمام هذه الإصلاحات العديد من من يمثلون قوى النكوص مدعومين ببعض وسائل الإعلام وعدد من المؤثرين والمحللين الذين يتباكون اليوم على عدم دخول الجامعات المغربية العمومية الى مصاف الالف جامعة في تصنيف شنغهاي !!!
وبعض النظر عن العديد من المكتسبات التي حققتها الجامعات المغربية ضمن نموذجها القائم ,والتي يعترف بها كل منصف يعرف عن قرب واقع هذه الجامعات كيف كانت وكيف أضحت اليوم رغم الصعوبات والإكراهات ، وهي تستجيب لحاجيات أكثر من مليون طالب ،
وبعد تحديد أهم معايير التقييم ، وكيف فهم منهجية اشتغال التصنيفات الدولية المعتمدة التي سبق أن وضحناها في تدوينة سابقة إفادة للمنصفين وقطعا لكل التعليقات الشعبوية التي لا تفيد الجامعة المغربية في شىء ، ولا تمت انطباعاتها إلى الموضوعية بصلة، ولا تشير الى مكامن الخلل وتقترح في نفس الوقت حلولا عملية صريحة وجريئة لعلاجها خاصة من الذين يقدمون أنفسهم كخبراء في هذا المجال والذين يخرجون إلى العلن في مثل هذا الوقت من كل سنة فيستهزؤون ويسخرون ثم يختفون إلى أن تظهر نتائج التصنيفات الدولية في السنة القادمة ،
لمثل هؤلاء الواقفين في وجه العديد من الإصلاحات الجوهرية بزعم تحصين المكتسبات ، ولكل الغيورين بصدق على مستقبل الجامعة المغربية ، نقدم المعطيات التالية في سياق مقارن حتى لا يسقط البعض في مقارنة ما لا يقارن :
1_ في التمويل :
الجامعات المصنفة مؤسسات كبرى تعتمد في ميزانياتها على التمويل الذاتي وتصل ميزانياتها إلى ميزانية المغرب ولا يمكن مقارنتها بجامعة يحرص الجميع على أن تمول من طرف الدولة ويسمى ذاك حماية للجامعة العمومية ومكتسباتها ،
2- في الموارد البشرية :
الجامعات المصنفة تعتمد على التعاقد مع أطر وخبراء من القارات الخمس وبتعويضات وأجور تتناسب وقيمتهم العلمية في بورصة البحث العلمي في الوقت الذي نركز فيه على المناصب المالية التي توفرها الدولة عبر الوظيفة العمومية ونسمي ذلك حماية للموارد البشرية وضمانا لاسقرارها حتى تؤدي وظيفتها على أكمل وجه!!
3- في البحث العلمي وبراءات الاختراع :
الجامعات المصنفة تستثمر ملايير الدولارات في البحث العلمي والابتكار بشراكة مع القطاع الخاص والمقاولات والمؤسسات المانحة، فإذا حصلت على براءة اختراع احتفلت بها وحصنتها قانونيا ثم عقدت بشأن إنتاجها وتسويقها اتفاقيات مع كبريات الشركات مقابل أموال ضخمة تضخ في ميزانية الجامعة ومختبراتها،
في مقابل استنكارنا لولوج المقاولة الى الجامعة خشية ما نسميه تسليعا لخدمات الجامعة ،
4- في الشراكة والتعاون :
الجامعات المصنفة مؤسسات استثمارية كبرى تحتضن مشاتل المقاولات وتستثمر في الأسهم والبورصات مما يجعل مداخيلها بملايير الدولارات تستثمرها في الرفع من جودة التكوين والبحث العلمي بها حتى تحافظ على تقدمها في التصنيفات الدولية لان كل ترقية في التصنيف يجعل منها قطبا جاذبا للاستثمار ، في الوقت الذي لا زلنا نصر على أن الدولة ينبغي ان ترفع من ميزانية البحث العلمي في الجامعات وترعاه وتتدخل فيه وفي تنظيمه من الالف الى الياء ،
5- في نظام التقييم والجودة :
الجامعات المصنفة تخضع لنظام صارم من التقييم الذاتي والخارجي من طرف وكالات تقييم التعليم العالي والبحث العلمي من داخل البلد ومن خارجه ، وتنشر تقارير تقييمها للعموم في إطار التواصل الشفاف مع المانحين ومع الرأي العام ، في الوقت الذي نقيم فيه الدنيا ولا نقعدها حين تقوم وكالة التقييم اليتيمة في بلدنا بواجبها في تقييم المسالك والتكوينات وتقييم المؤسسات ويعتبر بعض الجامعيين أن التقييم خاص بالتعليم ما قبل الجامعي ويدفعون في وجه ذلك بمقولة الاستقلالية الأكاديمية والبيداغوجية للجامعات ، الشيء الذي يجعل مختلف الفاعلين بالجامعة خارج أي محاسبة ،
6- في الحكامة والتسيير :
الجامعات المصنفة تسيرها مجالس إدارية تضم كبار الخبراء والفاعلين الاقتصاديين والاجتماعيين والشركاء الدوليين تحكمها قوانين صارمة في الترشح والاختبار ويتعاقد المجلس الإداري لتسيير الجامعة مع خبير في التسيير والتدبير بناء على مشروع عمل متفق عليه وخاضع للتتبع الصارم عبر النتائج وبناء على مؤشرات، لذلك لا يستغرب ان تجد خبيرا من سنغافورة يسير جامعة في بريطانيا او الولايات المتحدة أو قطر ، في الوقت الذي لا زلنا ننتظر كل خميس بلاغ تعيين عميد كلية أو رئاسة جامعة في مجلس حكومة ليس بينه وبين مجلس الكلية أو الجامعة الا تبادل تهاني والترحيب عند التعيين او عبارات الوداع عن انتهاء المهمة ، في غياب التقييم الموضوعي لما تحقق من مشروع المؤسسة أو الجامعة والبناء عليه لتطوير الجامعة ، ونسمي ذلك تعيينا بناء على مشروع تطوير واعتبرنا ذلك في وقت من الأوقات تقدما مهما قطع مع التعيين المباشر ،
7- في العلاقة مع الدولة : الجامعات المصنفة علاقتها بالدولة مقتصرة على القوانين والمساطر والأنظمة ومدى تقيدها بها واحترامها لها ، مع أجهزة رقابة صارمة تراقب الاستثمار واحترام معايير الجودة الدولية في التكوين والبحث ومراقبة المداخيل والنفقات وأداء الضرائب ، ومراقبة حركية رساميل الجامعة وكيفية تصرفها في أموال وهبات المانحين وغير ذلك في الوقت الذي نصر على أن تظل جامعاتنا خاضعة لقوانين وتشريعات مركزية مغرقة في البيروقراطية الإدارية ، بل ونخوض معارك طاحنة لتعديل هذا النموذج من الداخل باقتراح تعديل بعض البنود في القانون الإطار تكريسا لمركزية القرار حيث توجد مركزية التمويل ( دائما الجهة الحكومية الوصية ) ثم نتحدث بعد ذلك عن الرغبة في استقلالية الجامعة ،
وفي الخلاصة :
إن ارتقاء الجامعات المغربية العمومية في التصنيفات الدولية يقتضي قطائع كبرى مع النموذج القائم في مختلف تجلياته وجوانبه خاصة على مستوى الحكامة والتدبير، والتمويل ،والعلاقة بالدولة والمحيط الاقتصادي والاجتماعي، والشراكة والتعاون الدولي، وانظمة الجودة والتقييم والاعتماد والاشهاد ،وغيرها من التحولات الكبرى ،
لذلك لا نستغرب إذا ما لجأت الدولة في العشر سنوات الأخيرة إلى إحداث جيل جديد من الجامعات والمؤسسات الجامعية باعتبارها مؤسسات غير ربحية محدثة بقوانين خاصة تعتبر فيها الدولة شريكا مع المانحين والقطاع الخاص ، وقد بدأ هذا النموذج يشق طريقه بالتدريج نحو التعميم في كبريات المدن المغربية ،
فهل يعتبر هذا الاختيار تعبيرا من الجميع عن نوع من اليأس من إصلاح الجامعة المغربية العمومية ؟ وهل يعتبر التوجه نحو هذا النموذج الجديد ، اختيارا مستقبليا قابلا للتعميم على المدى المتوسط ؟
وهل يمكن لهذا النموذج أن يدخل جامعاتنا الى التصنيف الدولي بناء على الاشتراك في النموذج ثم في معايير المنافسة ؟
في غياب تفكير على هذا المستوى من القضايا الجوهرية ، وطرح الأسئلة الكبرى عوض الانطباعات المناسباتية الجزئية،
بالإضافة إلى تبني خيار الاشتغال بمنطق القطائع في الافق المتوسط والبعيد ، بدون ذالك سنظل نرهق أنفسنا بمقارنة ما لا يقارن ، كلما تعلق الأمر بقراءة نتائج التصنيفات الدولية الكبرى للجامعات، فالنماذج مختلفة والمعايير مختلفة ، وسنلوك في مثل هذا الوقت من السنة القادمة بحول الله نفس الكلام ، وعلى جامعاتنا المغربية العمومية ألف سلام ،