Deprecated: Automatic conversion of false to array is deprecated in /homepages/4/d885985160/htdocs/ksar.es/wp-content/themes/amnews/includes/fonts.php on line 616

حمة اليهود

13 أغسطس 2022

بقلم :  د. عوض بلفقيه

الساعة السابعة و النصف صباحا…طقس أصيلة هذا اليوم بارد بسبب هبوب رياح قادمة من شمال الأطلسي..يسميه الصيادون El Norte..سحب متفرقة تغزو السماء الزرقاء..أتردد في الذهاب إلى البحر خوفا من أن تمطر كما حدث لي في المرة السابقة حين رجعت إلى المنزل مبتلا من رأسي إلى قدمي، بعد أن داهمتني عاصفة شتوية…لبست سترتي و حذائي الرياضي و توجهت نحو الشاطئ الصخري للارحمة.
الشوارع مبتلة بسبب الأمطار التي سقطت ليلة أمس..بعض القطط تبحث في قمامات مطعم Casa Pepe عن بقايا سمك …لا أحد يتجول في الشارع.. ولجت باب القصبة..تيار قوي يخترق صمت المدينة القديمة..مررت أمام منزل السي بوقاع رحمه الله…تذكرت جلسته فوق الكرسي أمام منزله وهو يرمق بنظراته الثاقبة المارة..يسرح أحيانا في ماضيه…يتذكر شبابه و هو يرتدي بزته العسكرية عندما كان يشتغل في صفوف الجيش الأسباني Regulares خلال حكم الجنرال فرانكو..لم يبق من ذلك الزمن سوى منزله العتيق بمعماره الاسباني كشاهد عليه…
وصلت إلى ساحة القامرة…كلب مبتل يلهو بكسرة خبر يابس، و عيناه الشاردتان تبحثان عن مأوى يقيه البرد…واصلت طريقي نحو الطيقان..تلك الشرفات ذات اللون الأبيض المطلة على البحر..يلفحني هواء منعش قادم من أعماق الأطلسي..ذكرني بشقاوة الصبا، عندما كنت أذهب خلسة إلى الشاطئ رفقة أخي لكي نبحث عن دود البحر المختبئ تحت الرمال ..كنا نستعمله كطعم لصيد السمك..أحيانا نعثر على أخطبوط صغير تحت الصخور قاده حظه العاثر نحونا..نقضي اليوم نلعب مع أصدقائنا…نتراشق بالصدفات..نبحث عن سمكة عروس البحر…تذكرت..عبد المجيد..محمد الحلوي..رشيد الزكزوكي..رحمهم الله..أصدقائي الذين ماتوا و هم في ريعان شبابهم..أخي كذلك إلتحق بهم…
اقتربت من القريقية..صعدت درج ذلك السور البرتغالي الذي يخترق البحر و يرتفع عدة أمتار…لم يأت بعد المعلم محمود ذو الأصول القصرية لكي يقدم وصلته الكناوية…انتظرت حتى قدم الرجل ذو الملامح الافريقية بتسريحة الراسطة رفقة شاب و هو يتأبط هجهوجه . افترشا مكانا مقابلا للدرج .بدأ بالعزف و هو ينتظر سائحا يجود عليه ببعض النقود .. تقدمت نحوه .. نفحته خلسة بدريهات.. و قلت له..المعلم محمود..بغيت أغنية نرجاك أنا ديال عبد الرحمان باكو..بدأ الرجل يصدح بصوته.. و أنا أنظر في الأفق البعيد..صوت القراقب و الهجهوج يمتزجان بهدير الأمواج و طائر النورس ..أحس بمتعة غريبة و حنين جارف..أتخيلني في عالم اخر..في زمن الماضي…مع أشخاص غادروا الدنيا قبل أن أولد..مع أحباء توفوا منذ زمان و اشتقت لرؤيتهم..
نزلت درج سور القريقية..رذاذ البحر يلفح وجهي، ويمنحني شعورا بالانتعاش..أحاول أن أمشي بتأني فوق الصخور حتى لا أنزلق بسبب الطحالب التي تكسوها.. لا أحد يخترق عالمي…سوى من ارتطام الأمواج..أحد الصيادين فوق صخرة تسمى حجرة د مرزوق يحاول عبثا اخراج قصبته العالقة صنارتها بين الصخور..يجرها يمينا و يسارا..إلى الأعلى تارة و إلى الأسفل تارة أخرى..أسرح مرة أخرى في الأفق البعيد من البحر..أحاول أن أصل إلى أبعد نقطة بعيني..فجأة تظهر فتاة قرب حفرة صخرية تسمى الحمة ديال اليهود ..تسمرت في مكاني للحظات..أحسست بتيار كهربائي يصعقني من أخمص قدمي حتى ركبتي..تبدو في أواخر الثلاثينات من العمر..ترتدي فستانا أبيض شفاف و مبلل حتى التصق بجسمها..
ترتفع دقات قلبي..يتصبب قليل من العرق في جبيني..لا أعتقد أن الجن يطلع في النهار..هذا ما روته لي جدتي ذات مرة..نطت الفتاة بسرعة بقدميها الحافيتين فوق الصخور الناتئة غير عابئة بخطورتها و هي تتمتم في شرود شيئا ما.. أحاول استرجاع أنفاسي من وقع اللحظة..اقتربت من موجة تلطم أحد الصخور و تسمرت في مكانها مثل الصنم حتى تبلل جسمها..
فجأة، خرجت سيدة من نفس الحفرة الصخرية و هي ترتدي جلبابا داكن اللون و شالا يغطي رأسها..تبدو في أواخر الخمسيات من العمر..لم أفهم شيئا..هل هي جنية ثانية..؟؟ تسارعت دقات قلبي مرة أخرى..تراجعت خطوتين إلى الوراء..أحاول تثبيت قدمي بين الصخور حتى لا أقع…الفتاة شاردة تنزل في الحفرة و تلك السيدة تقول: يا الشريفة لالة عيشة.. يا مولات الحفرة ولكرمة.. دخلت عليك بمولاي إبراهيم مول الناچة ..شوف لرحيمو شي راجل.. رجلو على رجلا.. وراسوا على راسا.. ولسانوا بين ضراسا..
في لحظة تملكني الفضول .. عرفت حين ذاك أن الأمر يتعلق بخرافة البحث عن زوج لتلك الفتاة..توجهت نحو تلك المرأة و أنا أكاد أنفجر من الضحك قائلا لها : الشريفة، واش بنتك هادي؟ ردت علي…إيه أ ولدي..فسألتهما مرة أخرى: ياك لباس..واش مريضة..؟ قالت لي: لا..غير ماازل ماتزوجتشي..و كنعمل السبب ..دبا ربي يجيب لا شي ولد الناس.. ظهرت الفتاة مرة أخرى واقتربت منا..كانت مبللة بالكامل..التفت إليها المرأة قائلة: هاك الفوطة أرحيمو.. بدأت تمسح شعرها و هي تختلس في النظرات بين الفينة و الأخرى..نظرت إليهما بمكر و أنا أضحك في قرارة نفسي ، و التفت إلى المرأة قائلا: الشريفة..أنا موجود..نتزوج بها؟؟ رد علي فورا: كبصاح؟؟ فقلت لها بشيء من الثقة و الحزم: مالك؟؟ معجبتكشي؟؟ أنا موجود..
ساد صمت قصير ثم أطلقت المرأة زغرودة قوية و طويلة و هي تردد : يا الشريفة لالة عيشة..ها هو سيد الرجال.. يا الشريفة لالة عيشة..ها هو جا.. يا الشريفة لالة عيشة.. يا مولات التاج يا اللي زارك عمروا ما يحتاج…..المرأة و الفتاة تقتربان مني. يبدو أنهما أخدتا الأمر على محمل من الجد…دقات قلبي بدأت ترتفع مرة أخرى..تراجعت خطوة إلى الوراء..استدرت و بدأت أسرع الخطوات لكي أصعد درج القريقية ..سمعت المرأة تقول لابنتها رحيمو: اجري أ المسخوطة..راه غادي يفلت.. اجري ..أحسست أنهما بدأتا تقتربان مني أكثر..ربما قد تمسكان بي..لم ينفع معي سوى الهرب..استجمعت قواي..خطوة سريعة..أولى..ثانية..ثالثة.. تجمد تفكيري سوى من الانفلات من هذا المأزق.. أسابق الريح مثل السهم دون أن ألتفت يمينا و شمالا… ألهت من العياء…أخترق الازقة بسرعة مثل المجنون..لم أعرف متى و كيف وصلت المنزل..

اترك رد

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

الاخبار العاجلة

نستخدم ملفات الكوكيز لنسهل عليك استخدام موقعنا الإلكتروني ونكيف المحتوى والإعلانات وفقا لمتطلباتك واحتياجاتك الخاصة، لتوفير ميزات وسائل التواصل الاجتماعية ولتحليل حركة الزيارات لدينا...لمعرفة المزيد

موافق

اكتشاف المزيد من أخبار قصراوة العالم

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading