Deprecated: Automatic conversion of false to array is deprecated in /homepages/4/d885985160/htdocs/ksar.es/wp-content/themes/amnews/includes/fonts.php on line 616

لماذا نادى الفلاسفة والمفكرون والفيلسوف كانط بالسلام العالمي منذ قرون وإلى الآن… .

6 أغسطس 2022

بقلم: عبد القادر أحمد بن قدور
عالمنا اليوم فيه متغيرات كثيرة ومتلاحقة، وصراعات إقليمية ودولية لا حد لها، وقد فرضت على الأوساط السياسية والثقافية كثير من التوجهات تردد الدعوة إلى إقامة سلام عادل ودائم باعتبار السلام الحل الوحيد لكل هاته الصراعات على اختلاف مستوياتها.
هذا، وقد تثير هذه الدعوة أي الدعوة إلى سلام دائم وعادل الحيرة والدهشة معا، فهل هاته الكلمة الصغيرة (سلام) هي الحل السحري لهذه الصراعات الدامية التي شهدتها وتشهدها البشرية قديما وحديثا؟!
وهل السلام هو اختراع جديد قد اكتشفه البشر حديثا واتفقوا على أنه الحل الأمثل لكل مشكلاتهم أو جلها؟
في الحقيقة أن الفكرة قديما قدم المجتمع الإنساني نفسه ولها أبعاد مختلفة، فهي ليست ذات مدلول سياسي فقط، بل لها أيضا أبعادها ومدلولاتها الفلسفية، فالعيش في سلام بين الأجناس العديدة والمختلفة من البشر قد شغل بال الفلاسفة الرواقيين، وكذلك بال العديد من المفكرين والفلاسفة القدماء على اختلاف مشاربهم ورؤاهم.
بل لم يقتصر الاهتمام بالسلام على الفلسفات القديمة وحدها، بل نجد هذا الاهتمام أيضا لدى أشهر أعلام القرن 18 وخاصة الفيلسوف الألماني الكبير (إيمانويل كانط (1724 – 1804م) الذي أنجز مؤلفا صغير الحجم، عظيم الأهمية وضع له عنوانا كالتالي: ((مشروع للسلام الدائم)) سنة 1795م فماذا أضاف فيلسوف عصر التنوير في هذا المجال؟ وهل مازالت إضافته حية إلى الآن… وفي عصرنا الحاضر خاصة الذي يتسم بالجنون والجنوح، وتجتاحه حروب دامية وأهلية، وتدور حوله أشباح حرب عالمية، وربما تكون – نتيجة تراكم أسلحة الدمار الشامل – أقرب مما نتصور؟! وهل أصبحت الدعوة إلى السلام العالمي مطلبا ملحا وأساسيا لتعود البشرية كلها إلى عقلها ورشدها الذي كادت أن تفقده؟! وماذا قال فيلسوف العقل النقدي خلال دعوته إلى السلام العالمي؟ لقد اكتسب كانط شهرته في تاريخ الفلسفة الحديثة بأنه المؤسس للمذهب النقدي الترانسندنتالي (الشارطي) الذي حاول حسم الصراع وسد الفجوة بين المذاهب العقلية والمذاهب التجريبية في القرنين 17 و18، ووضع كانط ثلاثة كتب أساسية هي عماد مذهبه النقدي، وهي ((نقد العقل الخالص)) لسنة 1781م و((نقد العقل العملي)) عام 1788م و((نقد ملكة الحكم)) عام 1790م)، ثم جاء كتيبه الصغير ((مشروع للسلام الدائم)) في مرحلة متأخرة من تفكيره، وكأنه أراد أن يستكمل مذهبه العقلي والأخلاقي بنظرية سياسية تعني بتنظيم المجتمع تنظيما مدنيا، يكفل للإنسان أن يمارس نشاطه العقلي ويقوم فيه بواجبه الأخلاقي بحرية وأمان. هذا من جانب، ومن جانب آخر يقوم مشروع السلام الدائم على إقامة ((حلف بين الدول)) لمنع الحروب، وتجنب ويلاتها. ولكن هل هذا الجانب من فلسفة كانط يتناغم وينسجم مع مذهبه النقدي والعقلي؟ أم أن هذا المشروع لا يعدو أن يكون محض خيالات يوتوبية. غير قابلة للتحقيق، وإذا كان الأمر كذلك، فكيف يتسق هذا مع فكر فيلسوف عقلي صارم ومتميز، قام بوضع الحدود التي يجب أن لا يتعداها العقل البشري؟ وإذا لم يكن المشروع محض يوتوبيا، فما هي تفاصيله؟ وما وضعه في مذهب كانط وفلسفته العقلية والأخلاقية؟! وما الهدف من هذا المشروع الذي يتوج – على صغر حجمه – فلسفة كانط بأكملها؟
وسنحاول الإجابة عن هذه التساؤلات في نقطتين أساسيتين. 1): مكونات مشروع السلام الدائم. 2): علاقة مشروع السلام بمذهب كانط العقلي والأخلاقي.
1): مكونات مشروع السلام الدائم:
إن فكرة إقامة سلام عالمي – كما سبق القول فكرة غير جديدة في التاريخ الفلسفي، فهناك محاولات متعددة في العصور القديمة، ونخص منها بالذكر – على سبيل المثال لا الحصر – المحاولات التي برزت في كل من الحضارة اليونانية والرومانية، ففي الأولى كانت دعوة الرواقيين إلى نزعة كونية على أساس وحدة الجنس البشري. وتعد الرواقية من أكثر الفلسفات القديمة التي تجاوزت حدود المكان والزمان، ودعت إلى دولة عالمية، حتى أصبحت الرواقية ظاهرة تاريخية امتدت إلى ما يقرب من ثلاثة عصور. وعلى الرغم من أن الفلسفة الرواقية تشكلت من 3 مدارس مختلفة، إلا أنه تجمعها جميعا فكرة واحدة وهي فكرة ((الدولة العالمية التي نادت بها كل المدارس الرواقية، وكانت بذلك أول فلسفة ترفع شعار ((العالمية)). وقد أرادت الرواقية بالدولة العالمية تخطي حدود كل الدول لتشمل البشرية جمعاء، والمقصود من ((الدولة العالمية)) في هذه الفلسفة هو مجتمع إنساني كبير يتكون أعضاؤه من موجودات بشرية حرة، ويتحول فيها الإنسان إلى مواطن عالمي، وأخذ في الاعتبار الفروق الفردية والنوعية بين البشر. وعلى الرغم من أن الإنسان يصبح مواطنا للكون كله – باعتباره جزءا من هذا الكون – ويصبح وطنه العالم – باعتباره جزءا من مجتمع إنساني كبير – إلا أنه لا يتخلى في الوقت نفسه عن نزعته القومية (على عكس ما يدعو إليه النظام العالمي الجديد في عصرنا الحاضر) ولا عن واجباته نحو وطنه، على أن يكون ذلك في إطار دولة عالمية لتوحيد الجنس البشري.
وقد تقوم هذه الدولة العالمية على الأخلاق الرواقية التي تنشد السلام الروحي، أي أنها دولة لا يجري التعامل فيها بالمال ولا بالقانون ولا بالدستور، كما أنها ليس هناك حاجة إلى قيام مؤسسات ولا محاكم ولا ضرورة لوجود جنود أو جيوش، لأنه مجتمع اختفت منه الحروب ويسوده الانسجام مع الطبيعة. ولم يرد الرواقيون لهذه الدولة أن تكون قوة سياسية أو اقتصادية أو عسكرية، بل أرادو لها أن تكون جامعة روحية وعلى الرغم من أن الفكرة الرواقية في أساسها تنتمي إلى الفكر اليوتوبي، إلا أنها كان لها تأثير كبير على الإمبراطورية الرومانية وعلى المجتمع المسيحي في مرحلته المبكرة، من حيث هي فكرة تسعى إلى إصلاح العالم وتحقيق الانسجام الكامل بين الإنسان والطبيعة، لأن الهدف الأخلاقي للفلسفة الرواقية هو أن يحيا الإنسان في توافق مع الطبيعة الكونية التي هو جزء لا يتجزأ من الإرادة الكلية، ولذلك يصبح المجال الإنساني جزءا من المجال الكوني ومنه يتشكل.
وفي الحضارة الرومانية، كان هناك شيشرون وبعض أباطرة الرومان الذين دعوا إلى فكرة السلام. أما في العصر الوسيط، فكانت وحدة العالم المسيحي تحت راية الكنيسة، وسلطة البابا هي الفكرة السائدة في تلك الحقبة الزمنية. واشتدت الحاجة إلى السلام بعد الاكتشافات الجغرافية وبداية عصر الاستعمار، وازدياد الصراعات والحروب في أنحاء أوروبا، مما دعا بعض المفكرين إلى التحذير من مخاطر الحروب وبيان أسبابها، ومن تم ظهرت بعض المؤلفات التي تدعوا إلى إحلال السلام بين الدول.
ومن المفكرين الذين كتبوا في هذا الموضوع الراهب الفرنسي أمريك كروسه (1590-1648م) ووليم بن (1644-1718م) ولكن الأب دي سان بيير (1658 – 1743م) يعد من أهم الذين شغلتهم فكرة السلام، لأنه أصدر كتابا بعنوان ((مشروع لجعل السلام في أوروبا سلاما دائما)) عام 1712م)) وبين في هذا الكتاب ((أن معاهدة السلام ليس فيها أي ضمان للاستمرار، بل تنطوي على جرثومة حروب مقبلة، ولا تؤدي إلا إلى هدنات وقتية عابرة بين حروب، وسيظل الأمر على هذا النحو مادامت الدول لم تؤلف مجتمعا منظما)). لهذا قدم مشروعه لضمان بقاء السلام)). وخلاصة المشروع تقترح إنشاء ((اتحاد بين الأمراء (أو الملوك أو الرؤساء) لتكوين ما يشبه دولة اتحادية (فيدرالية) لها دستور فوق الدول، ولها وجود مستقل، ومهمات واختصاصات متميزة عن تلك الخاصة بالدول المؤلفة لها)).
ربما كانت المشروعات السابقة وغيرها هي الروافد الأساسية لمشروع كانط عن السلام الدائم، ولكن ما يميز مشروع كانط أنه لم يكن ترديدا لأفكار سابقيه عن السلام، وإنما كان وثيق الصلة بمذهبه النقدي، بقدر ما يعد تطبيقا لمذهبه العقلي وإيمانه الأخلاقي، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى ساعدت الظروف التاريخية والسياسية التي مرت بها أوروبا – في عصر كانط – على تبلور مشروعه عن السلام، ونعني بذلك النجاح الساحق الذي حققته الثورة الفرنسية وقضاءها على السلطة المستبدة، وما ترتب عليها من زوال الحكم المطلق وربما يكون كانط قد تأثر أيضا ب ((إعلان حقوق الإنسان)) الذي صدر سنة 1789م عقب قيام الثورة الفرنسية، والذي أعلن أن الناس يولدون ويعيشون أحرارا ويتساوون في الحقوق، كما نص في مادته 16 على أن ((كل مجتمع لا تؤمن فيه الحقوق، ولا يحدد فيه الفصل بين السلطات، هو مجتمع بلا دستور))، وقد أشاعت كل هذه الظروف جوا من التفاؤل بإمكان القضاء على الصراعات الداخلية في الدول عن طريق إقامة حكومات أو جمهوريات ديمقراطية يتحقق من خلالها الانسجام والوفاق داخل الدولة الواحدة، والتفاؤل أيضا، بإمكان القضاء على الحروب الخارجية التي تنشب بين الدول عن طريق قيام اتحاد فيدرالي حر بين شعوب حرة، بعد أن تكون هذه الشعوب قد استقرت في ترتيب شؤونها الداخلية. لقد ساعد كل ما سبق على بلورة مشروع كانط للسلام الدائم، فما مكونات هذا المشروع؟
يتكون مشروع السلام من 6 مواد تمهيدية تشغل القسم الأول من الكتاب، وتعبر عن الشروط السلبية للسلام، التي تتمثل في مجموعة من النواهي، ثم تليها 3 مواد نهائية تشغل القسم الثاني من الكتاب، وتمثل الشروط، الإيجابية للسلام. ويتبع كانط هذه الشروط (السلبية والإيجابية) بملحقين وتذييلين…
تنص المادة التمهيدية الأولى على: ((إن معاهدة من معاهدات السلام لا تعد معاهدة إذا انطوت نية عاقديها على أمر من شأنه إثارة الحرب في المستقبل)). وتقر هذه المادة أن إبرام أية معاهدة للسلام لابد أن يتضمن محاولة استبعاد كل أسباب الحرب التي يمكن أن تنسب في المستقبل بين أعضاء الدول الموقعة على هذه المعاهدة، وإلا أفرغت المعاهدة من مضمونها وأصبحت مجرد هدنة لتسلح الأطراف المتنازعة – التي استنفذت قواها – من أجل استئناف القتال من جديد…
وتنص المادة التمهيدية الثانية على: (( إن أي دولة مستقلة (صغيرة كانت أو كبيرة) لا يجوز أن تملكها دولة أخرى، بطريقة الميراث أو التبادل أو الشراء أو الهبة)) ولعل أهم ما تعبر عنه هذه المادة هو ما نسميه بلغتنا المعاصرة بحق تقرير المصير. إن الدولة ليست متاعا ولا سلعة تخضع للبيع أو الشراء، وإنما هي جماعة إنسانية لا يجوز لأي جهة أخرى أن تفرض سلطانها عليها، ولا يحق لأحد أن يتدخل في شؤونها الداخلية. ويشبه كانط الدولة بجدع شجرة لها أصولها الخاصة، وإن أي محاولة لإدماجها في دولة أخرى معناه تجريدها من وجودها، باعتبارها شخصا معنويا، وجعلها شيئا من الأشياء.
ويرفض كانط أيضا – في تعليقه على نص المادة – ما تلجأ إليه بعض الدول من تأجير فرق من جيشها لدولة أخرى، لأن من يفعل هذا فهو يستعمل الأشخاص. وكأنهم أشياء يسخرها ويستهلكها على هواه، ويتنافى هذا مع النزعة الإنسانية التي يؤمن بها كانط.
وتنص المادة التمهيدية الثالثة على أنه: ((يجب أن تلغى الجيوش الدائمة إلغاءاً تاما على مر الزمان)) ولعل أهم ما تتضمنه هذه المادة أنها كانت إرهاصا لما نسميه في عصرنا بالدعوة إلى نزع السلاح، فقد رأى كانط أن سباق التسلح والجيوش المتأهبة دوما للقتال هي من الأمور التي تعمل على استنزاف موارد الدولة، كما أنها مصدر دائم لتهديد الدول الأخرى. هذا بالإضافة إلى أن استئجار الأفراد لكي يقاتلوا أو يقتلوا معناه أننا نستعملهم استعمال الآلات أو الأدوات، وهذا لا يتفق مع حق الإنسانية في شخصنا، ولكنه استثنى من هذا حق الدفاع عن النفس وعن الوطن وسلامته من أي عدوان خارجي. وقد اعتبر كانط أن قوة المال وقوة التحالفات أو المصاهرات، إلى جانب قوة الجيوش هي القوى الثلاث التي تستخدم كأداة للحروب.
وتنص المادة التمهيدية الرابعة على أنه: ((يجب أن لا تعقد الدول قروضا (ديونا) من أجل منازعاتها الخارجية وتنطوي هذه المادة على أن الدولة التي تلجأ إلى الديون من أجل تنمية مواردها وتحسين الطرق أو تخزين المحاصيل استعدادا لسنوات عجاف، فإنها بذلك تعمل لمصلحة الاقتصاد الوطني. أما إذا لجأت إلى الديون من أجل الإنفاق على الحشود العسكرية استعدادا لصراعات خارجية، فإنها تضر بمصالحها ومصالح الدول الأخرى. إن هذه الدول تصبح خطرا يهدد سلامة الدول المجاورة وأمنها، مما يحمل هذه الأخيرة على التحالف ضدها للوقوف في وجه مطامعها، فينهار السلام وتضرم نيران الحرب والدمار، لاسيما أن الإفلاس هو الأمر المحقق في النهاية، ليس لهذه الدولة فقط، بل للدولة الدائنة الأخرى.
وتنص المادة التمهيدية الخامسة على أنه: ((لا يجوز لأي دولة أن تتدخل بالقوة في نظام دولة أخرى أو في طريقة الحكم فيها)). وهذا نص صريح من كانط بأنه لا يجوز لأي دولة أن تتدخل في الشؤون الداخلية لدولة أخرى وتنطوي هذه المادة على احترام استقلال الدول وحقها في التصرف في شؤونها الداخلية من دون أن يفرض عليها أي نظام آخر من الخارج لكن إذا ما نشبت خلافات ومنازعات داخلية وانقسمت الدولة إلى شطرين، فإن التدخل من دولة أخرى في مساعدة إحداهما لا يعتبر تدخلا في نظامها الداخلي – لاسيما بعد أن عمتها الفوضى – لكن لم يتضح من تعليق كانط على هذه المادة لصالح أي طرف من الطرفين تتدخل الدول الأخرى، ويثير هذا الاستثناء بعض الشكوك في مصداقية هذه المادة.
وتنص المادة التمهيدية السادسة على أنه: ((لا يحق لأي دولة في إبان الحرب، أن تستبيح لنفسها اقتراف أعمال عدائية -كالاغتيال والتسميم، وخرق شروط التسليم والتحريض على الخيانة- من شأنها عند عودة السلم، أن تجعل الثقة بين الدولتين أمرا مستحيلا)). تتضح من ثنايا هذه المادة نزعة كانط الإنسانية حتى في أحلك لحظات البشرية ظلاما – ألا وهي حالة الحرب – فيدعو إلى ألا تلجأ الدول، في حالة الحرب، إلى أساليب متدنية (كالاغتيالات ودس السم والخيانة) يستحيل معها، بعد انتهاء الحرب، التئام الجروح وعودة الثقة بين الأطراف المتحاربة. كما يدعو كانط في تعليقه على هذه المادة إلى تجنب حرب الإبادة التي تفضي إلى فناء الطرفين، ولا تدع للسلام الدائم مكانا إلا في قبر كبير يضم الجنس البشري كله. ولذلك يجب تحريم هذه الحروب وتحريم استخدام الوسائل المؤدية إليها. وإذا كانت الحرب هي الوسيلة الوحيدة التي تلجأ إليها الشعوب لإقرار حقها بالقوة في حال عدم وجود محاكم تفصل في مثل هذه الأمور بشكل قانوني، فإنه لا يجوز سن حرب تأديبية بين الدول لأنه – كما يقول كانط – ((لا يمكن أن تكون حرب بين دولة مستقلة حربا تأديبية، ذلك لأن التأديب لا يمكن أن يكون له وجود إلا في العلاقة بين رئيس ومرؤوس لكن هذه العاقة ليست علاقة الدولة بعضها ببعض)). ووفقا لهذا النص لا يحق لدولة أن تشن الحرب على دولة أخرى بغرض التأديب، لأن العلاقة بين الدولة المستقلة ذات السيادة ليست علاقة تابع ومتبوع. كانت هذه هي المواد الست التمهيدية التي يجب الامتناع عنها، أما عن المواد النهائية – لتحقيق سلام دائم بين الدول وهي بمنزلة الشروط الإيجابية التي يجب الالتزام بها، فتنحصر في ثلاث مواد، المادة النهائية الأولى: ((يجب أن يكون دستور المدينة في كل دولة دستورا جمهوريا))، وليس المقصود بالجمهوري عند کانط ما يعرف الآن بهذا الاسم – الذي هو مقابل النظام الملكي – وانما يقصد به كل نظام سياسي يقوم على أسس ثلاثة: 1- الحرية لجميع أعضاء الجماعة، 2- تبعية جميع المواطنين لتشريع واحد مشترك، 3- المساواة بين جميع المواطنين. والدولة عند كانط لها مفهوم عقلي قبلي وهي تتشكل من اتحاد مجموع أفراد الشعب وفق قوانين شرعية، بحيث يصبح أفراد الشعب أعضاء في مجتمع مدني يتكون من مواطنين يتمتعون بحق تشریع القوانين. ولا يمكن أن توجد الدولة إلا بشرط وجود مواطنین فعالین، وآخرین منفعلين، النوع الأول يسميه كانط مواطنين إيجابيين، والثاني مواطنين سلبيين. وهم الذین یعتمدون في غذائهم وحمایتھم على إرادة غيرهم لا على نشاطهم وعملهم الخاص، ولذلك ليس لهم الحق في المشاركة في سن قوانين الدولة، إذ تنقصهم الشخصية المدنية التي هي سمة النوع الأول، وإن کانوا يعاملون مثل سائر المواطنین بموجب قوانين الحرية والمساواة.
وفي الختام أذكر ماذا بعد أن تناولنا الجوانب السياسية والعقلية والأخلاقية باختصار شديد في مشروع كانط للسلام الدائم؟ هل مازال هذا المشروع حيا إلى الآن؟ أم إنه محض خيالات لفيلسوف تملكته رغبة عارمة في جمع شمل جميع الدول في اتحاد إرادي لوقف نزيف الحروب؟ وهل تحقق شيء من هذا المشروع على مدى أزيد من قرنين من الزمان؟
تبدو فكرة السلام الدائم – التي هي الهدف النهائي للقانون الدولي – فكرة غير قابلة للتحقيق، وإن كانت غير مستحيلة، بشرط أن يصبح الإنسان الذي يعيش في عالم التجربة والواقع هو الإنسان الكامل الذي هو المثل الأعلى عند كانط، والهدف من فلسفته التاريخية والأخلاقية. والوصول إلى الإنسانية الكاملة فكرة ليست غريبة عن عصر كانط، فقد تمثلت في أفكار أهم أعلام عصره من أمثال جوته وشيلر… وقد كان كانط على وعي بأن الرغبة في السلام لا تضمن بالضرورة تحقیقه، تماما كما كان على وعي بأن هناك تفرقة بينما هو كائن وما ينبغي أن يكون بين عالم الظاهريات وعالم الحقائق، بين الواقع العملي التجريبي وعالم الواجب الأخلاقي، وأن التوفيق بين الدوافع العملية والدوافع المثالية هو من الحقائق المهمة في حياة الإنسان. وإذا نظرنا إلى السلام كفكرة مطلقة من أفكار العقل، وكمثل أعلى معقول، فإنه لن يتحقق على الإطلاق لا استحالة انتقاله إلى عالم التجربة والواقع، فمبادئ السلام العالمی لا یمكن أن تستمد من عالم التجربة ولا من معايير الواقع (المتشدر) ولكنھا تستنبط من العقل بشكل قبلي، ومن المثل الأعلى. فهل تصبح فكرة السلام العالمي مقطوعة الصلة بالواقع الفعلي؟ على الرغم من أن الفكرة لم تكن قابلة للتحقيق في ظل الظروف التي عاش فیھا كانط، إلا أنه لم يشعر باليأس – حتى آخر لحظة من عمره – من تحقيق حلمه في إقامة سلام دائم بين الدول. وإذا كانت الفكرة غير قابلة للتحقيق في ظل ظروفنا المعاصرة بكل جوانبها المعقدة، فإنھا – أي فكرة السلام – في حد ذاتھا ليست مستحيلة، وإن وجود اتحاد إرادي أو تحالفات بين الدول ربما يقربنا من تحقیق الهدف، خاصة إذا نظرنا إلى فكرة السلام على أنها قاعدة منظمة أو مرشدة نعمل وفقاً لها. في هذه الحالة يصبح المثل الأعلى ممكن التحقيق، فيجري التقارب التدريجي بين الشعوب إلى أن يشمل البشرية بأسرها.
وعلى الرغم من مرور أزيد من قرنين من الزمن على وضع كانط لمشروع السلام الدائم، إلا أنه مازال مشروعا حيا حتى یومنا الحاضر، إذا ما وعينا بجدية ما أشار إليه کانط من ارتباط السياسة بالأخلاق، وأن تحقیق السلام مرھون بأن تخضع السياسة للمبادئ الأخلاقية، وقد تحقق ما سماه کانط ((تحالف الشعوب))، أو ((عصبة الأمم)) في الهيئة الدولية التي شكلت بعد الحرب العالمية الأولى تحت المسمى نفسه (عصبة الأمم) ثم بعد ذلك في هيئة الأمم المتحدة عام 1948م. ولو قدر كانط أن يعيش بيننا اليوم لشهد محاولة مشوهة لإحياء مشروعه في إطار ما يسمى الآن بالنظام العالمي الجديد (العولمة) والذي يعني في نهاية الأمر ضم دول العالم تحت لواء دولة واحدة بزعم إقرار السلام في العالم. ويهدد هذا النظام خصوصیة الدول وثقافتها القومية، وينذر بإدماجها في ثقافة واحدة. ولكن الواقع الفعلي يثبت أن كانط الذي عاش في القرن 18 كان أكثر وعیا بالواقع التاريخي من أنصار النظام العالمي الجديد في عصرنا الآن؛ وذلك عند أمر على أن يكون تحالف الشعوب في اتحاد إرادي مع احتفاظ كل دولة باستقلالها وخصوصیتها، وألا يتحول هذا الاتحاد إلى جمهورية واحدة لما تنطوي عليه هذه الفكرة من مخاطر أسلفنا ذكرها.
ربما نستطيع للأسباب السابقة أن نضع مشروع كانط للسلام في إطار المشروعات اليوتوبية الكبرى في تاريخ الفكر البشري، بدءا من مشروع العدالة: في جمهورية مثالية عند أفلاطون، ومرورا بكل اليوتوبيات الإصلاحية، حتى مشروع مجتمع الإخاء البشري الذي رسمه الفيلسوف إرنست بلوخ في القرن العشرين، وهي كلها مشروعات قابلة إلى حد كبير للتحقيق في الواقع، أي أنها ممكنة بشرط واحد هو أن يصبح الإنسان حيوانا عاقلا بحق، ويرتفع فوق نزواته ومصالحه ومنافعه وأهدافه المادية خاصة. وإلى أن يأتي هذا اليوم البعيد سيظل مشروع السلام الكانطي، شأنه شأن مشروعات سابقة ولاحقة مجرد مشروع أو حلم ممكن التحقيق لا أكثر ولا أقل. وكأنه أشبه بفنارة تهدي السفن الضالة في بحر متلاطم الأمواج والظلمات. وإلى أن يتعلم الأفراد وتتعلم الدول كيف تهتدي بهذه الفنارة، فسوف يظل التاريخ البشري مسرحاً للصراعات الوحشية والدامية، والتي تحركها المصالح والانفعالات والأهواء قبل كل شيء.
وبمناسبة إنجازي لهاته الدراسة أشير إلى بعض الفصول من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية التي تضيف مقرها “لاهاي” عاصمة المملكة الهولندية: المادة 3: 2- تعقد المحكمة مع الدولة المضيفة اتفاق مقر تعتمده جمعية الدول الأطراف ويبرمه بعد ذلك رئيس المحكمة نيابة عنها.
3- للمحكمة أن تعقد جلساتها في مكان آخر عندما ترى ذلك مناسباً وذلك على النحو المنصوص عليه في هذا النظام الأساسي.
المادة (4) المرکز القانوني للمحكمة وسلطاتها:
1- أن تكون للمحكمة شخصية قانونية دولية كما تكون لها الأهلية القانونية اللازمة لممارسة وظائفها وتحقیق مقاصدها.
2- للمحكمة أن تمارس وظائفها وسلطاتها. على النحو المنصوص عليه في هذا النظام الأساسي في إقليم أية دولة طرف.. ولها، وبموجب اتفاق خاص مع أية دولة أخرى، أن تمارسھا في إقليم تلك الدولة.
الباب الثاني: الاختصاص والمقبولية والقانون الواجب التطبيق
المادة (5)
الجرائم التي تدخل في اختصاص المحكمة
1- يقتصر اختصاص المحكمة على أشد الجرائم خطورة موضع اهتمام المجتمع الدولي بأسره والمحكمة بموجب هذا النظام الأساسي اختصاص النظر في الجرائم التالية:
أ) جريمة الإبادة الجماعية. ب) الجرائم ضد الإنسانية. ج) جرائم الحرب. ح) جريمة العدوان.
2- تمارس المحكمة الاختصاص على جريمة العدوان متى اعتمد حكم بهذا الشأن وفقاً للمادتين 121 و123 يعرف جريمة العدوان ويضع الشروط التي بموجبها تمارس المحكمة اختصاصها فيما يتعلق بهذه الجريمة. ويجب أن يكون هذا الحكم متسقا مع الأحكام ذات الصلة من میثاق الأمم المتحدة.

المادة 6 : الإباحة الجماعية
لغرض هذا النظام الأساسي تعني الإباحة الجماعية “أي فعل من الأفعال التالية يرتكب بقصد إهلاك جماعة قومية أو إثنية أو عرقية أو دينية بصفتها هذه، إهلاكا كليا أو جزئيا: – أ) قتل أفراد الجماعة. ب) إلحاق ضرر جسدي أو عقلي جسيم بأفراد الجماعة. ج) إخضاع الجماعة عمدا لأحوال معيشية يقصد بها إهلاكها الفعلي كليا أو جزئيا. د) فرض تدابير تستهدف منع الإنجاب داخل الجماعة. هـ) نقل أطفال الجماعة عنوة إلى جماعة أخرى.

المادة 7 : الجرائم ضد الإنسانية
1)- لعرض هذا النظام الأساسي يشكل أي فعل من الأفعال التالية “جريمة ضد الإنسانية” متى ارتكب في إطار هجوم واسع النطاق أو منهجي موجه ضد أية مجموعة من السكان المدنيين، وعن علم بالهجوم: – أ) القتل العمد. ب) الإبادة. ج) الاسترقاق. د) إبعاد السكان أو النقل القسري للسكان. هـ) السجن أو الحرمان الشديد على أي نحو آخر من الحرية البدنية بما يخالف القواعد الأساسية للقانون الدولي. و) التعذيب. إلى أن يذكر: ھـ) يعني “التعذيب” تعمد إلحاق ألم شديد أو معاناة شديدة، سواء بدنيا أو عقليا، بشخص موجود تحت إشراف المتهم أو سيطرته، و لكن لا يشمل التعذيب أي ألم أو معاناة ينجمان فحسب عن عقوبات قانونية أو يكونان جزءاً منها أو نتيجة لها.
إلى أن يقول هذا القانون في الفقرة (ط) يعني الاختفاء القسري للأشخاص “إلقاء القبض على أي أشخاص أو احتجازهم أو اختطافهم من قبل دولة أو منظمة سياسية، أو بإذن أو دعم منها لهذا الفعل أو بسكوتها عليه، ثم رفضها الإقرار بحرمان هؤلاء الأشخاص من حريتهم أو إعطاء معلومات عن مصيرهم أو عن أماكن وجودهم بهدف حرمانهم من حماية القانون لفترة زمنية طويلة.
3)- لغرض هذا النظام الأساسي، من المفهوم أن تعبير “نوع الجنس” يشير إلى الجنسين، الذكر والأنثى، في إطار المجتمع، ولا يشير تعبير “نوع الجنس” إلى أي معنى آخر يخالف ذلك. ولابد من ذكر وإشارة إلى الفصل: 161 من دستور المملكة المغربية لفاتح يوليو 2011 الذي يؤكد بنصه عن مؤسسات وهيئات احترام المرجعيات الوطنية والكونية بالقول عن هيئات حماية حقوق الإنسان والنهوض بها بما ذكر فيه: (المجلس الوطني لحقوق الإنسان مؤسسة وطنية تعددية ومستقلة، تتولى النظر في جميع القضايا المتعلقة بالدفاع عن حقوق الإنسان والحريات وحمايتها، وبضمان ممارستها الكاملة، والنهوض بها وبصيانة كرامة وحقوق وحريات المواطنات والمواطنين، أفرادا وجماعات، وذلك في نطاق الحرص التام على احترام المرجعيات الوطنية والكونية في هذا المجال)، هذا مما يؤكد أن دستورنا الأساسي والهام في بلدنا المغوار والوطن العربي والإسلامي الشقيق بأنه يحترم المرجعيات الوطنية والكونية بمؤسسات وهيئات حماية الحقوق والحريات، والحكامة الجيدة والتنمية البشرية والمستدامة والديمقراطية التشاركية بهيئات حماية حقوق الإنسان التي نتمنى من كل أعماقنا وجوارحنا أن يتحقق واقعيا ومؤكداً بوطننا الحبيب بكل جدية وممنونية وواقعية الضرورية كل ذلك بالكون كله و ببلاد ودول العالم لينتصر السلام التام الذي نادى و ينادي به وإلى الآن مفكرون وفلاسفة وعلماء وعظماء في العالم أجمع منذ قرون وإلى الآن بتاريخه….
– القصر الكبير في يوم الأربعاء 03/08/2022م

 

اترك رد

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

الاخبار العاجلة

نستخدم ملفات الكوكيز لنسهل عليك استخدام موقعنا الإلكتروني ونكيف المحتوى والإعلانات وفقا لمتطلباتك واحتياجاتك الخاصة، لتوفير ميزات وسائل التواصل الاجتماعية ولتحليل حركة الزيارات لدينا...لمعرفة المزيد

موافق

اكتشاف المزيد من أخبار قصراوة العالم

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading