ذة : سمية نخشى
احترقت قلوبنا مع سنابلهم ، و ما فتئ اللسان يلهج بذكر الله و الاستغاثة بألطافه….
الدخان المتصاعد في سماء المدينة، الضغط الجوي الذي انضاف لحرارة غير عادية و الذي كتم على أنفاسنا ، ذرات الرماد المتناثرة على أسطح المنازل ، كل هذا كان ينبئ بكارثة إنسانية تحل بمحيط مدينة حدائق التفاح الذهبي.
مع هشيم الحرائق اشتعلت العواطف الإنسانية و تأججت المادة الرمادية لجهاز عصبي ، بدأت تستسلم لغواية الكسل و الخمول ، لتتساءل عن رمزية النار و عن بعدها التاريخي:
فهل النار خلق، طهارة ام لعنة؟
ما اشتعلت النار الا و خلفت منعطفات في منحنيات التاريخ فاكتشافها مع الإنسان الحجري كان مرحلة انتقالية و مفصلية في تاريخ البشرية ، أعقبها تغيير شامل على كل مستويات نمط عيشه و طريقة تفكيره ، إذ شكلت مصدرا للضوء، للطاقة، للحرارة و الحماية و أيضا اداة للقتال، ليبدأ استغلالها تدريجيا في مختلف المجالات ، فكانت أساس تطور الحياة وصولا إلى ما نحن عليه الآن.
اما الاهتمام بها باعتبارها أصلا مكونا للطبيعة إلى جانب الماء، الهواء و التربة عند الفلاسفة الإغريق ، فكان ثورة معرفية نجحت في تغيير نظرة الإنسان للكون، للوجود و لذاته ، و حملته بعيدا عن هيمنة التفكير الأسطوري الذي كان يدين بكل صغيرة و كبيرة لإرادة الآلهة ( بمعناها الوثني) ، فأصبح أصل الكون والعالم حسب استدلالهم هو العناصر أو الاسطقسات الاربعة” الماء، الهواء، النار و التربة ” و كما استنتج هيروقليطس أن ” النار جوهر الوجود ”
الأديان و المعتقدات التي عرفها الإنسان كان لها أيضا رأي في النار بل لم تسلم من سطوتها و ظلت حبيسة تأثير سلطتها الوجدانية ، و قد استخدمت الشموع و المصابيح الزيتية في أماكن العبادة لدى الكثير من الطوائف ، خاصة عند ممارسة بعض الطقوس حيث اعتبرت النار بنورها دليلا على الخير في مواجهة ظلام الشر.،و كمثال على ذلك الديانة الهندوسية التي تعتبر النار واحدة من العناصر المقدسة ، كما أن أتباع زرادشت اعتبروا النار رمزا لوجود الله ، و لهذا يحرصون على دوام اشتعالها في معابدهم و تدعى بمعابد النار ، شأنهم في ذاك شأن الحضارة الفارسية التي قدستها.
حتى بالنسبة للديانات السماوية كاليهودية و المسيحية توقد الشموع في أماكن العبادة و ان كانت تتوعد المخطئين بالنار كأداة للعقاب .
استعملت النار أيضا لإحراق جثث الموتى عند الإغريق و عند الهندوس إيمانا منهم بخاصيتها التطهيرية، فهي تطهير للأرواح من دنس المادة و الخطيئة و هي المعبر لتناسخ الأرواح ( عند الهندوس).
الامبراطور نيرون ، حبا في روما احرقها، فقد امر بإشعال النيران ليتأتى له إعادة بنائها ، متجاوزا بذلك قرار منعه الصادر عن مجلس الشيوخ ، فإحراقها كان تطهيرا لها من الفقر و الفقراء كما الهمه جنونه.لكنه بعد ذلك مات منتحرا و ما ماتت روما.
في شمال افريقيا، لجأت الكاهنة ديهيا ، القائدة البربرية إلى حرب ” الأراضي المحترقة ” في مواجهة الفتح الإسلامي ، فكانت تشعل النيران ، تفتعل الحرائق في الأراضي الخصبة و اليانعة، و تبيد الخيرات التي اعتقدت انها من مطامعهم و ذلك سعيا منها لإبعادهم عن مملكتها .
خلال الأوبئة كانت النار دائما الوسيلة الأنجع للتعقيم، فتحرق جثث المرضى و مخلفاتهم من اغراض، ملابس و أفرشة.
النار إذن دفء ، تعقيم ، طهارة و لعنة حين تأتي على الأخضر و اليابس.
استشهادا بكل هذا ، هل يمكن أن تكون النيران التي التهمت و بنهم كبير خيرات مناطق الشمال مؤشرا لمرحلة جديدة قد تتجاوز الحصار المضروب عليها منذ زمن غير يسير ، و ضرورة ملحة للتفكير في كيفية تفعيل تنمية حقيقية لتلك المناطق النائية عن مجال اهتمام المسؤولين؟
ألا يمكن لهذه الحرائق ، و على قساوتها ، أن تحمل تغييرا لخريطة المشاريع التنموية المضربة عن هذه المناطق المنكوبة.
عادة ما يأتي التغيير مع الأحداث الكبرى، فهل نأمل خيرا و تغييرا ، أم نسلم و نستسلم لسياسة ترفض المصالحة مع مناطق مهمشة تم تجاهلها لعقود و عقود؟ ، ألم يئن الأوان بعد لتستعيد مدينة حدائق هسبريس مجدها و تحظى ب ” عمالة ” كمؤسسة تدبيرية ؟ ألم تكن آنذاك لتواجه مثل هذه الكوارث بشكل أسرع و أفضل؟.
هل هي لحظة مفصلية تعيشها مناطقنا المجاهدة ، الصامدة و المستميتة في مواجهة لعنة النيران و الحرائق؟ ألا يمكن تحويل هذه اللعنة لمصدر للتغيير و لبناء حقيقي لو سلمت النوايا ، و تجندت مختلف الفعاليات في مراكز القرار و التنفيذ ، و لو ارتقت أيضا سلوكيات المواطن الذي ينبغي أن يعي مخاطر الإهمال و العبث و الإستهتار بسلامة المكان و الإنسان.؟
ألا نأمل في انتظارات محتملة و ممكنة للنهوض بهذه البقعة من الوطن ، تنتصر على إرادة التهميش و التفقير
أخيرا ، أقول لأهالينا هناك : نشاطركم الحزن، الأسى و الترقب ، لكن الأمل قد ينبعث من الحرائق و من رماد هسبريس مثلما ينبعث طائر الفنيق من رماده
و لا يسعنا إلا ترتيل و تصديق قوله تعالى :” قلنا يا نار كوني بردا و سلاما على إبراهيم .”صدق الله العظيم.
طنجة في 24\07\2022