بقلم : لبيب المسعدي
ذكريات أصيلة من القرن الماضي.
الذاكرة المشتركة بالنسبة لأبناء جيل نهاية الثمانينات
الساعة تشير إلى الرابعة صباحا حسب عدد ضربات الساعة الحائطية المعلقة بعناية هناك وسط منزلنا مند الأزل، لم ترى عيناي النوم مند أن أعلن أبي عن سفرنا إلى أصيلة و نحن مجتمعون حول مائدة العشاء. أمي لم تنم هي أيضا تستعد للسفر، كنت أسمع حركاتها بين المطبخ و الدولاب و رائحة البطاطس المقلية و الدجاج المحمر في كل مكان،
حدث غريب في هاته الساعة المتأخرة من الليل. شبه مستيقضين، غادرنا البيت على الأقدام في اتجاه محطة القطار مولاي المهدي. و أعتقد أنها المحطة الوحيدة
في المملكة التي لا تحمل إسم مدينتها، لا أدري لماذا ؟؟؟
جلسنا على جنبات مقهى الداخلة الليلة في انتظار سماع صفارة السي “مودا” الرجل الغريب الأطوار و الأسنان.
مودا مول التران كما سجلت الذاكرة المشتركة لساكنة القصر الكبير، حارس المحطة الوفي الذي لا يعلم المكتب
الوطني للسكك الحديدية عن وجوده، يحرس بالمجان مستعينا بعصاه و صفارته.
فجأة وصل القطار القادم من مراكش فهرول المسافرون أمثالنا، من لا سيارة لهم ولا نقود كافية لكراء بيت أو خيمة في مخيم. أو من لا وقت و لا عقيلة لكل هذا، مثل أبي.
ركبنا مقصورة في الدرجة الرابعة أو الثانية. و قد كانت عبارة عن غرفة نوم جماعية يتقاسم فيها البشر و الدجاج الأماكن في مشهد سريالي لن أنساه ما حييت.
انطلق القطار في هدوء، و قد كان رأسي ملتصقا على نافذة الإستغاثة. على الزجاج، كتبت إسمي و رسمت قلبا بندی الصباح و شخير المسافرين ثم نمت.
وصل القطار إلى مدينة أصيلة. نزل شعب الدرجة الثانية من الدرجة الرابعة. و بقي النائمون في طريقهم إلى طنجة.
اتجهنا نحن إلى الشاطئ قبالة الوقاية المدينة، و قد كنا الأوائل الفاتحين للبحر في جزره، رفقة طائر النورس الذي كان ينظر لنا في استغراب مضحك. كأنه يقول من هؤلاء
الحمقى الذين أتوا إلى مملكتي عند شروق الشمس.
تكلف أبي باختيار المكان و أمرني بغرس عصا المظلة الشمسية ثم اختفى عن الأنظار. أما عن أمي و أختي فقد أسرعتا بتنظيف البقعة الرملية و فرشها بلوازم الإستجمام،
و إفراغ محتوى القفف الغذائية. بعد ذلك ركضت رفقة أختي لنلقي بأجسادنا و بشكل هيستيري في حضن المحيط الأطلسي البارد جداً ذاك الصباح الباكر. عاد أبي
في يده إكليل من الإسفنج و التشورو، فوضعه تحت تصرف أمي لترسم به و بعناية وجبة إفطار فوق الحصير. بعد أن أضافت إلى هاته اللوحة الشهية إبريقا من قهوة.
أيضا من مدينة القصر الكبير إلتحق بالمكان رجل و امرأة لا أدري ما العلاقة الشرعية أو
الغير الشرعية التي تجمعهما ، على ما يبدو أنهما من اصل أجنبي، إضافة إلى أنها شقراء فقد كانت ترتدي لباس سباحة لا علاقة له بموروثنا الثقافي المحتشم سوى الخير و الإحسان المسر للناظرين. اقترب الرجل إلينا طالبا منا و باللغة الإسبانية أن نحرس ممتلكاته الشاطئية لبضع دقائق.
ثم ابتعدا اتجاه الشاطئ ليتبادلا القبل غير مبالين تماما بطائر النورس و أسرته و لا بأبي و رعيته. كنا نسرق الأنظار اتجاه هذا المشهد الرومانسي الأنيق و نحن نستمع
إلى حديث والدي عن حرب الخليج و القضية الفلسطينية.
فجأة إلتحق بمكان قبالتنا رجل و امرأة لا ندري أيضا نوع العلاقة التي تجمعهما، إلا أنهما من البادي و الظاهر يحملان نفس بطاقاتنا الوطنية، أقول هذا مستندا على لون البشرة و جودة لباس السباحة. تصوروا معي أن الماثلان أمامنا قاما بتقليد نفس المشهد الرومانسي الذي ذكرته أعلاه
لكنهما لا يجيدان فن القلب، و لهذا الأمر طالبت أمي بشكل عنصري جدا تغيير المكان و هذا ما فعلناه. و لم أستوعب لغاية الآن المنطق الذي حلل مشهد الحب الإسباني و حرم و استنفر من مثيله المغربي.
انتصف النهار و شمس فصل الصيف تضرب بشكل عمودي على رؤوسنا، ارتفعت درجة الحرارة برياح شرقية تصفع أجساد العراة، ومباشرة بعد إنتهائنا من وجبة الغداء، جاء
الأمر لجمع الأمتعة وشد الرحال إلى وسط المدينة مشيا على الأقدام , مسار مرسوم اعتادت أسرتي أخذه كل سنة.
کنا نبتدئ بزيارة ضريح مليئ بالحمقى و مرضى السل و عائلاتهم، أتذكر جيدا ذلك المشهد البئيس لأشخاص مكبيلين بالسلاسل الحديدية حول شجرة كبيرة و قبر منفرد يتوسط ساحة على جنبات ضريح الولي الصالح محمد العربي غيلان. كان بعض المغاربة المؤمنون بهاته الخرافة
يحجون إليه من كل فج عميق. و قد علمت مؤخرا أن هاته الطقوس الرجعية تم إيقافها، بعدما تدخل أحد أحفاد الولي الصالح والذي يقطن حاليا بمدينة طنجة ويعمل أستاذا
هناك.
كانت الغاية من زيارة هذا المكان المتوحش ليس لأني كنت أحمقا بطبيعة الحال، بل كنا نستغل مياه البئر المتواجد في المقبرة المهجورة خلف الضريح لتنظيف أجسادنا من ملح البحر، أبي و أمي كانا يتوضئان لصلاة الظهر في انتظار صلاة العصر، و بعد قيلولة قصيرة بنفس المكان، كنا نشد
الرحال إلى برج القريقية مرورا بباب الحومر و أزقة زيليس الشاهدة على مرور الحضارات الرومانية، البرتغالية، الإسبانية، و الإسلامية.
وللمعلومة فقد تم إنشاء برج القريقية خلال فترة القرن الخامس عشر، عندما كانت مدينة أصيلة ترزح تحت الإحتلال البرتغالي منذ سنة 1471، حتى تحريرها على يد
السعديين سنة 1589، وينتصب برج “القريقية”، الذي يعتبر أعلى نقطة في مدينة أصيلة، على شكل لسان بارز وسط مياه المحيط.
كنا نجتمع على جنبات سطح البرج الصخرية، لنتفرج على مشهد قفز الشباب المغامر من الزوار و المحليين، حيث
كانوا يلقون فأنفسهم من الأعلى إلى البحر في أقصى مده، حتى تدنو الشمس نحو الغروب مرسلة أشعة من صنع الخالق من سمائه على بحره، سرعان ما تنكسر بين أمواج المحيط الأطلسي، في منظر طبيعي بديع.
سعيد جدا بمشاركتي معكم بساطة الداكرة المشتركة. بعضكم راسلني عبر الخاص ليحدثني بدوره عن يوميات صيف أصيلة، بين قطار آيل للسقوط، و وجبة غداء
ممزوجة بالرمل و الرياح الشرقية، مرورا بماء بئر سيدي العربي غيلان، إلى باب الحومر و القريقية و جداريات المدينة العتيقة و وجوه مئات المصطافين من الأجانب و المحليين.
أعود بمخيلتي لتلك الحقبة و أقف متسائلا : هل كنا سعداء؟
نحن معشر الدرجة الرابعة، صناع السفر، و الفرجة و النكتة من أبسط الأشياء، نحن جيل الحامدين الشاكرين المتشبتين بالأمل.
في الماضي كنا فعلا سعداء، حتى أصابنا داء الإستهلاك، و حكمنا على أنفسنا بالمقارنة.
أغلبيتنا اليوم تتحدث عن الماضي بحسرة، واصفين ماضينا بأنه أكثر راحة ونقاء، وصلحا مع الذات، لأننا و بكل بساطة، كنا بعيدين عن المظاهر التي تغمر حياتنا الآن في كل شيء.
أقول : الماضي جميل و البساطة أهم ما يميزه، أما الحاضر فهو أكثر راحة، وأكثر تعقيدا.