ذ : حنان قدامة :
هي خلاصة تجارب راكمتها أثناء اشتغالي مع إحدى الجمعيات المهتمة بالاستشارة الأسرية والتربوية ،لا أدعي فيها نجاحا لكنني أسجل فيها اعترافا بأنني استطعت أن أفتح كوة تسلل منها شعاع أمل خفف من حدة ألم.
جمرة المخدّرات
عبر أنين ضمير جريح أتاني حديث الإدمان، همس به فتى من شمال المغرب، كلّ شيء فيه يبوح بالحسرات، أضناه ألم هيروين، طحنه وأسرته طحن الرحى….أشجاه صراخ ضمير يتأوه ..يحن إلى معانقة استقامة تاه عنها في غفلة منه ومن والديه ، بعد أن اختلسها منه سم مخدّر الهيروين الأبيض الذي وشّح حياته بعتمة السواد. . . عاش “وائل”في كنف أسرة متحابّة ،رفل هو وأخته الكبرى في حنان والديه وحبّهما ،ذكاؤه وصلاحه كان لا فتين جعلاه ينتزع الإعجاب والاستحسان أينما حل وارتحل. . غرت استقامة “وائل “والديه ،تناسوا طفولته فألبسوه ثوب الرشد قبل الأوان . .
في نهاية المرحلة الإعدادية،وفي عامه الرابع عشر، سيضرب” وائل” موعدا مع التيه والضّياع ،سيشرع الفتى في التعرف على بعض رفاق السوء ، تزامن ذلك مع مرض مزمن ألمّ بأخته الكبرى لتنصرف عنه أبصار والديه واهتمامهما،فقد أحدث المرض اللعين رجّة في محيط الأسرة ،أدبر الأنس وأقبل الحزن، توارت الضحكات وتبدّت العبرات ليبدأ الفتى في الابتعاد عن محيط أسرته وحيّه رويدا رويدا. . انشغال الأبوين بمرض الابنة والثقة الزائدة في رجاحة عقل الابن المراهق، دفعتهما إلى التساهل مع” وائل” الذي أضحى ـــ على غير عادته ـــ يتأخر في العودة إلى المنزل ولا يبالي بدراسته . حذّر الأب ابنه المراهق من معاشرته لأصدقائه الجدد ولكن في كل مرة كان “وائل”يؤكد له استعصاء رشاده على الانحراف .
لم يدر بخلده أنه سيتهاوى أمام أول حبّة من حبوب الهلوسة سيتناولها لعلّها تنسيه حزن عائلته وتحجب عنه مقلتي أمّه اللّتين غمرتهما الدموع . .
عندما كان” وائل” يصحو من غيبوبته، يجد ضميره مترصّدا له، صارخا عليه ، يصمّ أذنيه عن صراخه ليعود للارتماء في حضن رزايا الهيروين ودنايا الحشيش .
في خلسة المختلس أحكمت المخدّرات قبضتها على “وائل” منه سرقت مرحه، وداعته، وتقدير ذاته . .
راودت الشكوك الوالدين ولم تجد نصائحهما نفعا مع ابنهما الذي أبى الاعتراف بإدمانه وظلّ يمنّي نفسه أكاذيب المنى في التوبة والصلاح الذي فارقه وأمسى خبرا.
أصبح قلب “وائل”جريحا وهو يرى جمرة المخدّرات تلسع مرحه و أنس أسرته ،ضاق صدره بما لا يقال ليقرّر في النهاية الاعتراف لوالديه بحقيقة إدمانه ورغبته في العلاج. .
أدخل وائل إلى مستشفى” الرازي” بسلا،خضع فيه للعلاج بدواء “الميتادون”، بإرادة قوية منه ودعم متواصل من أسرته نجح في الإقلاع عن تناول سم الهيروين الذي ترك ندوبا وجراحا في نفسه جعلته يخضع للعلاج النفسي من الاكتئاب، فقد انقلب حال وائل وتغيّر طبعه ، لم يعد يوزع البسمات هنا وهناك، ودّعه مرحه،غدا ضميرا يترنح ، قلبا ينزف، ودمعا يحرق، اهتزت ثقته بنفسه وتدنّى تقديره لذاته التي ظلّ يلومها ويجلدها بسياط الندم.
إلى هنا انتهى اعتراف “وائل “وبوحه بما ينغّص عليه حياته ويؤرّق مضجعه:شعور قاتل بالمعرّة والخزي ،بخذلانه فخر أبويه وعائلته،وكذا تدنيس علاقته بربه الذي يمد له اليوم “وائل يديه راجيا عفوه الواسع فهو يروي كلّ من يرد.
المعالجة
بمجرد ما توقّف” وائل” عن الكلام وأدركه الصمت الحزين ،طاف بخاطري الحديث الذي ينسبه البعض للرسول عليه السلام :
جدد السفينة يا أبا بكر فإنّ البحر عميق ”
أدركت قوّة أغلال السلبية التي تكبّل “وائل” وتهوي به في قعر سحيق من احتقار الذات ولومها ، أيقنت أن المراهق المطعون بخنجر المخدّرات في حاجة ماسّة إلى إعادة بنائه النّفسي وتجديد مجاديف سفينة حياته لكي تمخر بكل أمان بحر ذاته المتلاطم .
من هذا المنطلق انصبّ اهتمامي في لقائي الأول بوائل على تحريره من مشاعره السلبية تجنّبا لسقوطه في هاوية التدمير الذاتي .
وضّحت له في البداية أن الندم ولوم النفس ظاهرة صحية ضرورية لتهذيبها وتقويمها ،وهما دليلان على حياة الوجدان الأخلاقي للإنسان الذي زكّاه الله في سورة القيامة:
لا أقسم بيوم القيامة ولا أقسم بالنفس اللوّامة ”
غير أن المبالغة في مشاعر توبيخ النفس قد تدفع المرء إلى الشعور بالهوان وازدراء الذات، لذا فالأولى شرعيا ونفسيا حسن إدارة هذه المشاعر حتى لا تدير هي حياتنا وتجعلنا ندور في حلقة مفرغة من اليأس والقنوط.
بما أن مشاعرنا اتجاه ذواتنا هي التي تكسبنا الشخصية الإيجابية والسلبية وبما أن أفكارنا هي التي تقودها وترسم ملامحها ، كان لزاما علي مهاجمة تفكير” وائل” السلبي وتطبيق قانون “استبدال الأفكار “.. استبدال التفكير السلبي بالايجابي الذي سيوجد عادات جديدة مساعدة على زرع الإيجابية في نفس الإنسان .
في أولى خطوات قانون استبدال الأفكار تعمّدت أن أهاجم شعور” وائل” المرضي بالخزي والعار، فذكّرته بأن ارتكاب الأخطاء هو من دلائل إنسانية الإنسان ومن الطّباع التي فطره الله عليها لأنها مسلك من مسالك التعلّم والتطور ومصدر من مصادر الخبرات التي تصنع النجاح ،فأعظم الأخطاء أن يرى الإنسان نفسه منزّها عن الأخطاء التي لولاها لما تجلّت الكثير من صفات جمال وكمال الله عزّوجلّ. أردت أن أخلّص” وائل” من إحساس الحزن على الذنب إلى إحساس الفرح بالتوبة إلى الله التي تجبّ الخطايا .
“التائب من الذنب كمن لا ذنب له” ــــ حديث نبوي ــــ والتي هي من مستلزمات حبّ الله لعبده وفرحه به، وبالتالي فالمطلوب تقبّل ذاته والتسامح معها ، إذ لا جدوى من القسوة عليها والذنب لم يعد له ملف في محكمة السماء أما في محكمة الأرض فمن عادة ذاكرة البشر الاحتفاظ بأخر ذكرى التي ــ إن شاء الله ـــ ستجعل إدمانه نسيا منسيا .
لم يفتني توصية وائل بملازمة الصلاة والاستغفار اللذين يرقيان الإنسان ويمدّانه بطاقة روحية إيجابية ستعينه على تجاوز مرحلة تبخيس الذات وتضخيم الذنب والانتقال إلى مرحلة تحقيره وتضخيم عفو الله ورحمته . . في خطوة تالية دعوت “وائل”إلى تجديد ذكريات وذلك بالانعتاق من زنزانة الندم على الماضي الذي أفسد حاضره والتشبث بقوة “ألان ” الذي سيصنع مستقبله ولن يتم ذلك إلا بشغل ذاكرته بمواقف إيجابية جديدة…..ــــ ممارسة هواية….تعلم لغة…المشاركة في أعمال اجتماعية…ــــ بدل إعادة مشاهدة الماضي وتقليب صفحاته فلا عقارب الساعة تعود إلى الوراء ولا السباحة ممكنة في مياه النهر مرتين . .
من أجل إقناع مشيري “وائل” بقوة “الآن”قصصت عليه حكاية السباق الذي جرى بين الأسد والغزال الذي دفعه الخوف إلى النظر إلى الخلف عوض النظر إلى الأمام فكان فريسة سهلة لملك الغابة على الرغم من أن سرعته هي ثلاثة أضعاف الأسد.
أبدى مشيري” وائل” إعجابه بالحكاية فرجوته استلهام عبرتها بوضع الماضي خلفه والاهتمام بما ينبغي عليه أن يكون عليه اليوم وغدا .
تطبيقا لمبادئ استكمال الأفكار عزمت على أن يعيد” وائل ” تشكيل صورته الذهنية عن ذاته لأنها عامل أساسي للحصول على تقدير الذات. فهو ليس مجرد أخطاء بل هو من قوّم تلك الأخطاء ، هو من أفلح في قهر سطوة الهيروين وحبوب الهلوسة، وهو من نجح في الاستجابة لنداء الضمير . يقينا مني على أ ن الفراغ هو خير صديق للتفكير السلبي ألححت على “وائل” بتحديد هدف مستقبلي ـــ ولوكأن صغيرا ــــ والسعي إلى إنجازه وإتقانه لأن التقدير الذاتي يتغذى من الانتصارات التي يحققها الإنسان من خلال إنجازاته ونجاحاته، فالانشغال بالأهداف سيجنّبه إٍرهاق نفسه بما يضرّ ولا ينفع وسيقلّل نسبيا لقاءاته بماضيه الذي يكرهه وحتى في حالة الفشل ــ لا قدر الله ـــ يبقى احترام الذات أمرا مستحقا لأن “وائل” امتلك قرار التغيير والتطور فأي هزيمة هي هزيمة مؤقتة ولا نهاية إلا وقت النهاية . وهو يودعني لمحت في عيني “وائل”همة التحرر من قيود الماضي وآلامه تتبعته عيناي بينما كان خاطري يجول مع كلمات “جلال الدين الرومي” :كيف يضحك المرج إن لم يبك السحاب.؟..وهل ينال الطفل اللبن بغير بكاء ..؟