الطفلة التي كنتها عادت بي الذكريات إلى الطفولة صور تتلاحق أمامي ، يداعب طيفها فكري .. ذة فاطمة الناجي

27 أبريل 2022

الطفلة التي كنتها ” سلسلة رمضانية” تعدها الإعلامية أمينة بنونة .
ترصد السلسلة من خلال ضيوفها – كتابا وكاتبات أدباء وفاعلين في الحقل الثقافي – تجارب خاصة بمرحلة الطفولة والتي عادة ما تشكل بوادر توجهاتنا ومساراتنا المستقبلية

هناك على ربوة ضفاف اللوكوس حيث انبسطت كثبان رملية تمازج بين جمال وسحر الطبيعة الخلابة وطيبة وشهامة أهلها التي تطل من عيونهم كلما جمعك الحديث معهم ،
بين أنا سكنت غور هذا الجسد كطفلة حزينة لرحيل أحباء كانوا بمثابة سلوى لي في طفولتي الأولى، و من ظننتهم باقون معي إلى الأبد كلبي وهرتي وصديقتي وابن عمتي ومعلمتي ، حيث بصموا بزوايا أعماقي ذكريات لا يمكن محوها، و غريبة بأطواري العجيبة في تناقض بين صمت الذات خارجيا وهرجها داخليا ، كنت أتلمس من عبراتي نورا خفيا يرشدني للطريق الصواب و الأمل في الغد ، فرحي بالحياة كان يطير كحمامة بدهاليز فؤادي ليرسم ابتسامات على محيا كل من يقع نظره علي، وحزني كان بمثابة هم يكدر الطبيعة من حولي لتنسج ظلاله غيوما تقرب للسواد ،يبكيها المطر فينفثها سيلا على ربى الأودية والأنهار ،كان ارتحالي وأسرتي من تاونات حيث الجبال وسحر الطبيعة والهواء العليل ، لمرفأ آخر هو القصر الكبير المشتهر بطبيعته الهادئة والسحر الليلي الأخاذ وفي طقسها المعتدل والأرض الولود سر كبير يضم شرودي ، وظمئي لكنز المعلومات والتجارب من حولي لكل ماصادفني أو يصادفني ، سواء دونته بتذكار حملته معي، أو في ذاكرتي أثناء تنقلي ، كما تجمع النحلة الرحيق ..
دأبت منذ نعومة أظافري على تقبل كل شيء جديد واستقباله بتفاؤل، كانت أسرتي تغدق علينا المحبة والاهتمام بكل إمكانياتها المادية والمعنوية، رغم أنني لزمت دائما الحنين للماضي البعيد بكل أفراحه وأقراحه، والمقارنة بين ماض رحل وحاضر أحياه ، لتنتابني أسئلة تثير حفيظتي عن كنه الحياة ، ولماذا تتغير دائما من حولنا ولا تظل كما هي ..؟؟ لماذا نكبر ونترعرع فنصير شابات وأمهات فجدات ، وشبانا و آباء فأجدادا فيكون مصيرنا الموت الحتمي ، بل وأحيانا يترصدنا هذا الأخير ونحن بعمر الزهور ..؟؟ ثم ما الغاية من وجودنا …؟؟ أفكار وجودية وتساؤلات تطرح نفسها علي فأبثها للخالق سبحانه وتعالى أثناء تأملاتي ، وأسرها لجدتي التي كانت أقرب شخص لي في أسرتي الكبيرة ، والتي لاحظت تعطشي للاطلاع وحب المعرفة ، مشرعة جناحي رغبة وشوقا للتعلم واكتشاف العالم من حولي، فكانت حكمة جدتي المحنكة كفيلة بتعليمي وإرشادي من خلال حكاياتها القيمة كانت تجيب على استفهاماتي وتضارب أفكاري ، كما كنت أصاحبها في السفر عند الأهل والأصدقاء، و قيامها بالواجب اتجاههم ، ففي مرة ذهبنا في زيارة لأصدقاء لها من أيام طفولتها ، استقبلونا بترحاب يليق بأهل المغرب الكرام في بيتهم العامر بضواحي تاونات ، كان مؤلفا من طابقين بغرف كبيرة تطل على جبل شامخ بقرية أبا محمد ،تعرفت عن كثب على صديقتها الطريحة الفراش، كانت هزيلة الجسد معلولته، ببشرة تروم للشحوب والاصفرار ، كما تعرفت على كنائنها الثلاثة وأبنائها و أحفادها العشرة ، كان بينهم ثلاثة يقربونني سنا ، في النهار كنت أقضي وقتا جميلا ألهو مع أقراني نلعب ونمرح ، وعند وقع الليل يصير الحي مظلما ، فنلج البيت مرغمين للعشاء والراحة، وعند ميعاد النوم كانت تبدأ معاناتي ؛ إذ كانت جدتي تضع وسادة صغيرة تحت مقعد صديقتها المريضة لتجلس عليها نهارا ، فتعطينيها لأنام عليها ليلا ، لم أفهم الغاية من فعلها ذاك ، الشيء الذي كان يصيبني بدوار وألم برأسي وبعض الغثيان ،بمجرد أن أقترب من تلك الوسادة الكريهة ، وقد كان مقترحا أن نمكث عندهم أسبوعا ، غير أنني عانيت من عدم الراحة وانعدام النوم ،فكنت أبقى أراقب حركات جدتي وأتحرس مما قد تفعله حتى انبلاج الصباح ، حيث كانت كلما استيقظت تغطيني بلحافها الثقيل لتقيني قسوة البرد، ثم تتلمس بأصابعها رأسي لتجد المخدة قد هربت من تحت رأسي فتعيدها مرة أخرى ، لأقضي ليلتي ساهرة في شد وجذب معها وهكذا دواليك .. مر يوم أو يومين على نفس الحال ،ثم قررت بعدها ألا أنام أبدا ليلا بعدما تجلس السيدة على الوسادة عينها ، فأطمئن بأنها لن تكون من نصيبي ثم أغيب في نوم هانئ حتى الغذاء ، رغم أنني كنت لاأكتفي من ساعات نومي القليلة من بعد الفطور إلى موعد الغذاء، كما كنت أضحي بفترات لعبي مع أحفاد السيدة ، إلا أنني صرت غير قادرة على النوم بتلك الظروف.. تعجبت جدتي من تقلب أحوالي ،فبدت غير مرتاحة تقيس درجة حرارة جسمي بين الفينة والأخرى، وتتساءل عما حل بي وما إذا كنت مريضة أجيبها باقتضاب أني بخير فقط أحتاج للنوم، مما زادها استغرابا ، الأمر الذي سرع من عودتنا قبل مرور الأسبوع، وحينما أقفلنا راجعين من عندهم ، أخبرتها حقيقة الأمر فغابت في قهقهة مدوية رحمها الله قائلة:” يالك من طفلة عجيبة ..!! ولماذا لم تدعيني أعلم ساعتها،كنت غيرت لك الوسادة بأخرى..؟ يالي من حمقاء حسبت أن الوسادة مناسبة لك لصغر حجمها، ولم يخطر ببالي هذا الأمر ..! فلم أرد عليها وفهمت أني استحيت أن أكلمها بالموضوع في حضور أصدقائها ..
أما في المعتاد من الأيام كنت أرافقها للمسجد طلبا للصلاة وإلى السوق، كي أحمل معها القفة الكبيرة ، وعند الأصيل نخرج إلى ساحة الحي ” بحجرة الموقف” ، حيث نجالس صديقاتها من النساء العجائز ثم تخضن في نقاشات طويلة عن الماضي الذي أدبر، حتى رفع آذان صلاة المغرب فنصلي ونعود أدراجنا للبيت ، مع توالي الأيام صارت أغلب صديقاتها صديقات لي، كنت سعيدة بالتعرف والصداقة مع مثل هؤلاء النسوة حيث تعلمت منهن أمورا كثيرة ماكنت لأتعلمها لولاهن.. لقد أدركت معهن أن الحب والمشاعر والحنين درجات متفاوتة في علاقاتنا الإنسانية ، وكذلك صلة القرابة لكن أقواها حب الأم الذي فطر عليه الإنسان، حيث لا تقف أمامه أية عاطفة أخرى ،كما أن السعادة هي وقتية وتختلف من فرد لآخر والزمن والعمر لا استقرار فيهما يتغيران بحسب تغير الأحداث والأشخاص ، وأن الإنسان كلما كبر يحتاج للمحبة والحنان والتفهم أكثر وبتراكم السنوات والعمر تصبح ذاكرة الإنسان مثقلة بالذكريات والتجارب والخبرات ، الشيء الذي يؤهله لمواجهة معيقات الحياة برزانة وحكمة …
في ربيعي السابع بإحدى الليالي الصيفية الجميلة سمعت والدي يهمس بصوت مبحوح ومتألم لجدتي وزوجة عمي : “الطبيب قال بأنها ما عاتعيشي أكثر من ست شهور .. ليستطرد بحزن… مابقالا والو وتموت ..!! ” كانت أمي المعنية بالحديث فأجابته زوجة عمي مندهشة : ” الله أكبر وكيفاش عتعمل مع هاد العيال ..؟! ” رد مطأطأ رأسه : ” الله يعمل شي تاويل د الخير وصافي ..” انسحبت أجري في هدوء خارج الغرفة، إلى ملجئي بسقيفة المنزل حيث أتامل عادة ، كانت النجوم تبدو كبيرة ومتلألئة والبدر يكاد يكتمل، كانوا يسبحون جميعا في فضاء السماء الرحب بجمالية لامتناهية ، جلست القرفصاء أتأمل هذا الجمال الرباني لوهلة، ثم تكرر شريط صدى صوت أبي وامرأة عمي بأسماعي، ” لن تعيش .. مآل العيال ..”؟؟ كان ماسمعته من حوار صدمة كبيرة لي ، كيف لا يفكران بصحتها المتدهورة، ويركزان على مصير الأبناء فقط ؟؟ هل هذا هو دورها في الحياة..؟؟ ولماذا يرتبط دور الأنثى في مجتمعاتنا العربية دائما بالإنتاج البيولوجي، وكأنها مجرد آلة للإنجاب والرعاية، ولا ينظر لها ككائن بشري له حقوق و عليه واجبات ..؟؟ مسكينة أمي كيف يكون طعم الحياة بدونها.؟؟ رجوت الله أن يمهلها بعض الوقت ،حتى نكبر أنا وإخوتي، ودعوته خاشعة بأن يطيل في عمرها ، رجعت إلى غرفتي متعبة قبل الفجر بقليل ، علني أغفو قليلا لكن النوم رحل عن مقلتي بدون رجعة ، تواردت في مخيالي صور ذكرياتنا مع والدتي ، لتتسارع دموعي بالانهمار أكثر ، ومع انفلاق الصبح قررت أن أتحمل مسؤولية رعايتها وإخوتي الصغار والاهتمام بالبيت ،لوهلة خفت لكنني كنت مؤمنة برحمة الله ، مما جعل مني متماسكة في إظهار شجاعتي ورباطة جأشي ، فمنذ صباح ذلك اليوم باشرت في تحمل عبء الأسرة عنها ،كما بت أتعلم فن الطبخ وآلياته من زوجة عمي وكيفية تدبير البيت وأشغاله ، والاهتمام بحال أمي واخوتي ، وكلما تحتشد الدموع في عيناي أنهرها بخفة ، وأنهض لإكمال عملي حتى لا أترك مجالا لينقص شيء بالبيت ،فأستودعهم جدتي عند ذهابي لمدرستي ، لبثت ستة أشهر على حالها مرتاحة تتناول دواءها، ثم بدأت بوادر التحسن تظهر جليا عليها ، وبات أمر نجاتها مطروحا، وبعد مرور حوالي ثمانية أشهر صارت حالها أفضل حتى صحت وتعافت تماما فرحنا كثيرا وشكرنا الله تعالى،فكان هذا بمثابة درس لي على أن إرادة الله فوق كل علم وكل شيء ..بعد شفائها عادت الحياة إلى سابق عهدها، و تحول اهتمامي وتركيزي لأمور أخرى غير تدبير البيت ..
شرعت بالرجوع لطفولتي من جديد ، أدرس وأنجز تماريني حينا ،و ألعب حينا آخر مع رفيقاتي في الحي كانت أغلب لعبنا من صنع أيدينا، حيث كنا نصنع العرائس ونخيط ثيابهن ، كما كنا نلعب لعبا بسيطة ك “شريطة “و “الغميضة “..، و نعد وليمة “العشيوي” التي كنت أفضلها، بعدما أضحيت متمكنة من آداب الطهو وفنونه في محنة والدتي..
بعد سنة ونيف مرضت جدتي وتوفيت بعد صراع مرير مع المرض الذي أنهك جسمها ، واستقبلت فاجعة وفاتها بشكل حتمي، لأنه كان متوقع وفاتها ، أوجعني فراقها ووحشتي لها ، إلا أن الأقدار أبت منحنا المزيد من الوقت معا..
اهتممت بالمطالعة وقراءة القصص التي كان يحضرها أخي الأكبر المشمول برحمة الله لي ولأختي الصغرى، أو تلك التي كنا نتبادلها مع زميلاتنا أنا وهي بالمدرسة ، حيث عثرت على ضالتي في القراءة ، فقرأت جل قصص الأطفال للكاتب عطية الأبراشي ، و مجموعة قصص المغامرون الخمسة من تأليف محمود سالم وروايات الجيب كرجل المستحيل للدكتور نبيل فاروق، ثم راح شغفي يكبر للكتب الأكثر قيمة، من حيث الرصيد المعرفي والأدبي، ومنها على سبيل المثال روايات الأديب العملاق الحائز على جائزة نوبل للأدب نجيب محفوظ ‘زقاق المدق’ و ‘ السكرية’ و ‘الثلاثية’ و’ الحب تحت المطر ‘و ‘ السراب ‘… وكتاب ‘العبرات والنظرات’ لمصطفى لطفي المنفلوطي ورواية ‘الفضيلة بول وفيرجيني’ من ترجمته للأديب الفرنسي برناردان دي سان بيير كما قرأت روايتين للأديب المصري إحسان عبد القدوس ،’ لن أعيش في جلباب أبي’ و ‘دمي ودموعي وابتساماتي ‘ وأيضا للأديب غسان كنفاني ‘عائد إلى حيفا ‘ كما قرأت للكاتب والشاعر والأديب المحنك مصطفى محمود العقاد ‘الديوان في الأدب والنقد ‘ و ‘الثقافة العربية ‘ … ومجموعة قصصية يابانية ‘ضجيج الجبل ‘ للأديب الياباني ياسوناري كواباتا من ترجمة صبحي حديدي … وكذلك للأديب السوري الكبير حنة مينا ‘المصابيح الزرق ‘و ‘ القطاف ‘ و’بقايا صور’ وغيرهم كثير … كما تابعت إصدارات المجلة العربية الشهيرة “العربي” التي كانت تسافر عبر الأقطار العربية والعالمية لترصد ثقافاتهم المختلفة من حيث الحضارة و المناخ الطبيعي والجغرافيا والاقتصاد ، كما لم يغب عني مطالعة كتب في الشعر الجاهلي والأموي والعباسي والشعر الحديث ..
كانت رحلتي في بحور الكتاب تجربة فريدة ورائعة من نوعها ، ساعدتني في تحسن مستواي في اللغة العربية وصقل موهبتي في الكتابة ،حيث خططت أول محاولة شعرية في سن صغير جدا قبل غروب ربيعي العاشر بدعم من أساتذتي وأسرتي، كما أنجزت مواضيع إنشائية وبحوث خصني بها أساتذتي فنالت إعجابهم واستحسانهم وتصفيقات زميلاتي وزملائي، الأمر الذي جعلني أحظى باهتمام وتشجيع منهم في المسابقات الأدبية واحتفالات عيد العرش المجيد ،حيث تقمصت أدوارا تمثيلية في مسرحيات شعرية وملحمات وطنية باللغة العربية الفصحى، كما شاركت في أنشطة ثقافية والتي كانت قد اعتمدتها المؤسسات التعليمية أنذاك …
راحت ذكرياتي في تراكم لأدون بعضا منها في مذكرات، تبرر عدم نسياني لها ،بعدما مر الزمان وتغيرت الحياة من حولي ، لأجد أن في مسيرتنا الحياتية نختزن تجارب ومشاعر تملأ الذاكرة والوعي واللاوعي بمحصول ، يظل غافيا فيها إلى أن تتاح له فرصة إخراجه للنور ، فالمعاناة هي التي تدفع بتلك الكوامن لتخرج من معاقلها ، مزدانة بهذا الإسهاب الثقافي المعبر عن التجربة الإنسانية المعمقة والمصاغة من بوثقة الحياة .. فالمعاصرة أوالحداثة ولجت بإشكالياتها المتناقضة بين البساطة والتعقيد إلى حياتنا ، لتشمل جل الأجيال والمستويات الاجتماعية والثقافية والاقتصادية، وبث ألحظ التطور فيها يفرز أشكالا أخرى من التواصل الاجتماعي غير الذي عهدناه في الطفولة، كما لم تشهده الحضارة الإنسانية من قبل ، فغدا العالم بأسره كقرية صغيرة ..

اترك رد

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

الاخبار العاجلة

نستخدم ملفات الكوكيز لنسهل عليك استخدام موقعنا الإلكتروني ونكيف المحتوى والإعلانات وفقا لمتطلباتك واحتياجاتك الخاصة، لتوفير ميزات وسائل التواصل الاجتماعية ولتحليل حركة الزيارات لدينا...لمعرفة المزيد

موافق

اكتشاف المزيد من أخبار قصراوة العالم

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading