الطفل الذي كنته ” سلسلة رمضانية” تعدها الإعلامية أمينة بنونة .
ترصد السلسلة من خلال ضيوفها – كتابا وكاتبات أدباء وفاعلين في الحقل الثقافي – تجارب خاصة بمرحلة الطفولة والتي عادة ما تشكل بوادر توجهاتنا ومساراتنا المستقبلية
************
الطفل الذي كنته “حياة واحدة لا تكفيني”، لا أدري حقيقة هل كان الأستاذ الكبير عباس محمود العقاد يعتقد بالفعل أن الإنسان يعيش حياة واحدة بصيغة المفرد؟ وددت لو أخبرته أن في العمر أكثر من حياة، غريب هذا الإحساس الذي غمرني الآن وأنا أعيد شريط ذكريات من الماضي، الحزن والفرح، الضعف والقوة، السقوط والصعود… أشعر أن تنهيدة نطت من أعماقي أتخيل أن صداها سُمع في أرجاء الكون ، تنهيدة لا يمكن في حال من الأحوال أن تُختزل في حياة يتيمة وواحدة!
أشعر أني محظوظ جدا، حينما فتحت عيني أول مرة في الدنيا وجدتني داخل أسرة رائعة، على رأسها أم عظيمة وخمسة إخوة وأختان وكنت أنا بينهم هو الأصغر، لا أدري هل كان ذلك من حسن بختي أم العكس؟ خلال طفولتي الأولى لم يكن الجرح الذي خلفه وفاة الوالد قد اندمل بعد، لم يمهله الموت حتى أستوعب ملامحه جيدا في قلبي وعقلي كنت أصغر من أن أحتفظ في ذاكرتي بتفاصيل هيئته وشخصيته ، لا أحد يكترث لنفسانية الطفل الأصغر داخل الأسرة الصغيرة إنها مثل بيت العنكبوت سريعة التلف والانكسار، أتذكر أني قضيت شهورا أحاول أن أستوعب الكلام الذي سمعته من امرأة زارتنا ذات ليلة، لم تتوقف المرأة عن الحديث عن الموت وتقول بخشوع وبصوت منكسر جدا: “اييييه كل نفس ذائقة الموت ” في ذلك المساء فقط علمت أن الموت الذي خطف والدي يحوم حولنا جميعا، أتذكر أنني قضيت سنوات طفولتي الأولى متعلقا بدرجة غريبة بوالدتي، كنت كالظل أمشي ممسكا بتلابيب قميصها من الخلف. أن تفقد أحد الوالدين شيء مؤلم لكن أن تفقدهما معا فهذا فوق قدرتي وقدرة كل البشر ، كنت ربما في قرار نفسي أخشى أن أفقدها هي الأخرى.
الطفل الذي كنته، أراه خجولا قليل الكلام وعديم الجرأة والجسور، غصنا شديد الالتصاق بجدوره على خلاف شقيقي أسامة الذي يكبرني مباشرة كان في حيويته وخفته وفرحه وشقاوته يعوض الأسرة عن هذا الانكماش الفظيع الذي لازمني لمدة، القدر له منطقه الخاص يمعن في الحرمان لكي يستفزك على التحدي وإثبات الذات. استطعت أخيرا أن أتخلص من خوفي وأن أخطو خطوتي الأولى ما بعد عتبة البيت، انصرفت عن ضيق الجدران إلى رحابة الحياة، اكتشفت ساحة فسيحة قبالة منزلنا وعلى اليسار حديقة عمومية جميلة تتزين بأنواع شتى من الورود والنباتات وغير بعيد عنها جهة الشارع رأيت حديقة للألعاب خاصة بالأطفال كان منظر الأرجوحة و لعبة الميزان والزليقة يثير في نفسي شهية الانطلاق واللعب، بينما وراء المنزل رأيت صومعة سيدي عقوب بيضاء ناصعة تتوسط باقة من نخيل يعلو السماء، عند عودتي سألتني الوالدة مبتسمة ” كيف وجدت الحي ؟” عوض أن أصف لها ما شاهدته لذت بالصمت، وقلت بعد أن انصرفتْ “وهل الجنة قابلة للوصف؟”، اكتشفت أيضا أمرا غريبا فكل أهل الحي سمعتهم ينادونني باسم “سيدي حميد “! ظل هذا الاسم عالقا بي طوال سنوات طفولتي ، حاولت أن أتصدى لهذا التحريف تارة بالعنف وتارة أخرى بعدم الاكتراث، لكنني فشلت فشلا ذريعا بعدما شاع الاسم المزيف حتى بين أفراد أسرتي وما زالتْ لحد الساعة شقيقتي الكبرى من حين لآخر حين تريد مداعبتي تناديني ب “سيدي حميد”! أحببت حي سيدي عقوب لكن هامش ذاك الفضاء الجميل والرحب صار يتضاءل مع الوقت، الساحة الفسيحة أضحت مكتظة بالإسمنت والياجور بينما الحديقة الجميلة تحولت لبناية دار الشباب وتم الاستغناء كلية عن حديقة اللعب الخاصة بالأطفال! مع ذلك كنت سعيدا بالحي و شغوفا بتلك الخطوة التي قادتني إليه، ومن استحلى الخطوة الأولى يطمع ويطمح أن يجرب الثانية !
كان رمضان هذه السنة في عز فصل الصيف، القصر الكبير زمن الحر أشبه بفرن كبير كنا طوال النهار نظل مختبئين في البيت من لهيب الشمس الحارقة بينما الليل كان يغري بالسهر مع هبوب نسيمه العليل المشبع برحيق ” مسك الليل “، ليس عبثا من قال ” أجمل ما في القصر ليله”، كان يروقني صحبة مجموعة من أصدقاء الحي التسكع بين بيوت الجيران نتفرج على النسوة وقد افترشن عتبة البيت لطهي “المخمارة” على “المجمر” بنكهة دخان الفحم والخشب، نظرا للثقة المفرطة التي كنت أتمتع بها عند أسرتي ويقينهم المطلق بعدم تهوري فقد كان يُسمح لي الذهاب إلى مسجد سيدي عقوب القريب من أجل صلاة الفجر، لا أدري كيف طاوعت نفسي واتجهت صحبة صديق إلى مسجد الفتح خارج الحي، بعد الصلاة جلسنا نستمع إلى الشيخ سي البشير حدثنا يومها عن قصة سيدنا يوسف عليه السلام، كان كلامه لبقا لينا جميلا مفعما بالإيمان يصل بسلاسة ويسر إلى القلب فلم نشعر بالوقت إلا وقد صارت الشمس ترسل أشعتها الذهبية تعبر ستائر نوافذ المسجد. عدت جريا إلى البيت هالني حالة الفوضى والترقب في الحي الذي لم ينم أهله تلك الليلة، ظلوا يبحثون عن الطفل “سيدي حميد” الذي غادر البيت الليلة الماضية ولم يعد بعد! لم أغضب كثيرا من العقاب المبرح الذي تعرضت له من طرف شقيقي الأكبر فلقد علمت على صغري أنه بقدر الحب يكون العتاب وبقدر العطف يكون العقاب، كان عقاب الوالدة للا حبيبة أشد وأقسى وأمر رغم أنها لم تفعل شيئا سوى أنها تركت دمعة تعبر خدها الأيسر جهة القلب حينها تذكرت حديث الشيخ عن بكاء سيدنا يعقوب ابنه يوسف عليهما السلام، فهكذا هم الأمهات يتصفن بصفات الأنبياء.
أعتبر أن مرحلة إعدادية المنصور الذهبي كانت الأجمل والأبهى ومنذ سنتي الأولى في الإعدادية تعلمت أن أحب، فعشقت مرتين، أحببت الأولى والثانية خلال نفس السنة الدراسية وكنت سعيدا جدا بهما، غريب من يقول “لا يجتمع حبان في قلب واحد”، نظرا لصغر سني وقلة تجربتي تورطت في حبهما أكثر وفي السنة الرابعة إعدادي حين بدأت أستوعب الأمور بطريقة أفضل أدركت أنه يتحتم علي أن أختار بينهما، كرهت هذا الاختيار الذي سيقودني لا محالة لخسارة احداهما ولأني كنت مغرما حد الجنون بالأولى اخترت الثانية لكي أستلذ العذاب أكثر، كل القصص الرومنسية الخالدة تنتهي بجروح غائرة في القلب فالحب العظيم لا يؤمن بالنهايات السعيدة، ألم الفراق يجعل الحب أجمل. في ذلك اليوم هاتفني في المنزل رئيس جمعية رسالة الطالب بطنجة المرحوم سي مصطفى بن مسعود حيث كانت تربطني به علاقة أدبية وأخوية فقال لي رحمه الله بنبرة غاضبة جدا ” بلغني أنك اخترت الشعبة العلمية، هل تعلم أنك بهذا الاختيار صرت فاقد البصر والبصيرة!” ابتسمت له وقلت متوسلا ” لا تغضب مني أستاذ سي مصطفى فالحب من خصائصه أنه أعمى!”، تعودت من حين لآخر أن أرتب في السر مواعيد غرام ، كنت أهرب بنفسي من كراريس الرياضيات والفيزياء والبيولوجية إلى عوالم أخرى حيث كتب الرواية والشعر والخيال ظلت علاقتي بالشعبة الأدبية في أوج عنفوانها لم ينل منها رتابة وضغط الامتحانات أو بؤس وكثافة المقررات الدراسية.
لم يكن أحد يعتقد أن الطفل الذي لم يجرؤ أبدا على القيام بخطوته الأولى خارج عتبة الدار إلا بمشقة وعسر كبيرين لن يكتف هذه المرة بالخطى والمشي بل سيطير ويحلق بعيدا نحو الضفة الأخرى وراء البحر، هولندا الجميلة رغم أناقة مدنها وروعة باديتها وبساطها الأخضر المزين بأنواع ورود التولب الفاتنة تشعرك تارة بالضجر والملل، أنا القادم من الشرق بلاد الشمس والحر كيف سأتكيف مع الصقيع والثلج؟ شعرت فجأة بدفء الحياة يسري من جديد في نفسي وقلبي حينما كانت نواة حياة أخرى لجنين تتفتح وتتشكل في رحم والدته. حل زكريا وحلت معه أفراح الربيع، آه يا ابني ما بال هذا الربيع أصابه المسخ؟ كيف أشرح لك وأنت لم تطفئ شمعتك الثانية بعد سبب ذهاب والدتك المتكرر إلى المستشفى، لم تستوعب صغيري كيف أن شعرها الكثيف صار يتساقط كأوراق الخريف مع كل حصة العلاج الكيميائي، مع الأيام أضحى غيابها عن البيت يطول أكثر وأكثر. في بداية فصل شتاء حجزت في الطائرة إلى المغرب لم أكن أحمل معي حقائب هدايا من علب الشكولاطا والملابس والألعاب كما تعودت أن أفعل دوما اكتفيت هذه المرة بحمل طفل قلق لا يستوعب الكثير من الأحداث التي يراها حوله ونعش قُدر له أن يجاور ضريح الولي الصالح مولاي علي بوغالب. عدنا نحن الإثنان من جديد إلى هولندا، صرت مع الوقت أتقن مهارات لم أكن أتخيل أني ممكن تعلمها أبدا خصوصا كيف أطوع الدقيق مع الزيت والماء لصنع عجينة الرغيف، الفطور المفضل للطفل الصغير، كيف أمرر الخيط في ثقب إبرة لكي أرتق زرا سقط عن القميص، لكني تفوقت أكثر حينما أتقنت مهارة الكذب فكنت أصنع البهجة والفرح أمامه وأضحك ملء شدقيّ حتى وأنا في أحلك الأوقات تعاسة في نفسي وقلبي وكياني!
الأيام تمر بنا بسرعة مفرطة والعمر كحصان لا يأبه لعلو الحواجز يتخطى السنين، السنة تلوى الأخرى يلتهمها كما تلتهم النار الهشيم، ومنذ زمن ليس باليسير لم أعد أشغل نفسي بمسألة عدد الأعوام والحساب كنت في الحقيقة قد عقدت هدنة مع الزمن لكني اكتشفت نهاية هذا الأسبوع مدى سذاجتي وخيبتي حين توهمت يوما أن الزمن جدير بالثقة ويراعي العهود والمواثيق!
عادة ما استعمل دراجتي الهوائية حينما أرغب في الذهاب إلى قلب مدينة أتريخت المكتظة لا أدري من الذي جعلني هذه المرة أفضل ركوب الأتوبيس ، لم أعثر على مقعد شاغر، شعرت بالحرج حينما قام شاب من مكانه وقال بأدب جم ” تعالى سيدي استرح هنا هذا المقعد أنت أولى به ” عوض أن أشكره على لباقته كنت مشغولا بأمر أهم ” هل صرت أبدو كبير السن لا أقوى على الوقوف؟ يا له من شاب قليل الذوق والمروءة، ماذا يعني لو أصاب الشيب شعرة أو شعرتين في الرأس أو في أسوإ الحالات بعض التجاعيد تحت العين؟”، انتبهت إلى السيدة التي كانت تجلس بجانبي رأيتها تبتسم في وجهي شعرت أن ملامحها ليست غريبة عني فجأة نط اسمها بين شفتي “أهلا فيكتوريا، سنين طويلة لم أراك ربما آخر مرة التقينا في الحفل الذي نظمته المدرسة للتلاميذ بمناسبة حصولهم على الشهادة الابتدائية يومها كان ابني زكريا يجلس بجانب ابنتك سوزان، كيف حال سوزان الآن؟” ضحكت فيكتوريا وقالت “سوزان تزوجت العام الماضي وتنتظر طفلا في الأسابيع القادمة، سأصير جدة، لقد هرمنا يا عزيزي” ، سألتني فكتوريا عن أسرتي، وأنا أفتح صورة ابنتي حبيبة على شاشة الهاتف شعرت وكأني أعود إلى زمن شبابي الأول وعشقي القديم زمن الإعدادي بينما صورة البنت الصغرى ياسمين تفعل بي الأعاجيب، مثلا عوض أن ألج المصعد عند خروجنا من الحافلة كما فعل ذلك الشاب الذي منحني مقعده مشيت منتشيا اتجاه الدرج الإسمنتي أصعد بخفة ونشاط كالصبيان درجتين درجتين كما لو عدت من جديد ” سيدي حميد ” في طفولته الأولى زمن حي سيدي عقوب …