الطفل الذي كنته ” سلسلة رمضانية” تعدها الإعلامية أمينة بنونة .
ترصد السلسلة من خلال ضيوفها – كتابا وكاتبات أدباء وفاعلين في الحقل الثقافي – تجارب خاصة بمرحلة الطفولة والتي عادة ما تشكل بوادر توجهاتنا ومساراتنا المستقبلية
***********
ألا أيهذا الطفل الكامن جنينا في صندوق الذاكرة لا يشيخ. ما كنت أريد، يا زمني المفقود، أن أزعج راحة طفولتك، لولا الحنين الذي ينتابني بين الفينة والفينة، لفتح صفحات كتاب زمانك، ونبش ما غص به من تقلبات بيضاء ورمادية وسوداء.
ألا زلت تذكر لحظة الصفر، التي انبثق فيها وعيك بالعالم؟. كنت جد صغير، حين امتلأت داركم بالرجال والنساء والأطفال، بينما اللغط ودقات الطبول الراعدة ونغمات (الغيطة) الشجية، تشنف بألف بهجة وبهجة رفرفات روحك. كنت تلبس (بدعية) وجلبابا و(بلغة)، كلها جديدة، والجميع يبدون اهتماما وفرحا بك كأنك أمير صغير، رغم أن الوقت لم يكن وقت عيد. ولما أطللت من (الدربوز) إلى أسفل الدار، شاهدت أخاك يُحمل إلى رجل محاط بلحاف أبيض، وسرعان ما ارتعت لما سمعته يصيح باكيا، كما لو أنهم قطعوا جزء من جسده. حينها انبرى والدك من بين الجميع، ونظر إليك نظرة لم تفك شفرتها ساعتها، وناداك أنِ انْزِل، فلم تخطر ببالك إلا قطعة شوكولاط مغرية تنتظرك بين كفيه، لهذا أعارك قزح جناحين رشيقين، رفرفت بهما نحو السلم فرحا متوهجا. ولا زلت تذكر أنه اختطفك قبل أن تتم نزول الدرجات الأخيرة، وسلمك لذات الرجل المتواري وراء اللحاف الأبيض، وبيده مقص أسود. اختفت البهجة والتوهج، واستشطت رعبا وألما وغضبا، وانطلقت تصرخ باكيا كأخيك، وأنت تردد: وازهيرو وازهيرو وازهيرو… ولم تكن زهيرو غير جارة طيبة، كانت تعاملك كابنها، وتحكي لك الحكايات العجيبة الغريبة، فوضعوك في حجرها، وفورا جعلت تطبطب عليك وتقبلك بحنو، فارتحت قليلا. ومن يومها انطلقت ذاكرتك تختزن كل إحداثيات تاريخك.
هل أذكرك أيهذا الطفل الكامن في صندوق الذاكرة دون أن يشيخ، بالخطوة الثانية في طريق وعيك بالعالم؟. ففي سجل ذاكرتك كتب عليك وأنت تخطو خطوات قليلة في العمر، دخولُك إلى كُتَّاب الفقيه الجباري بجامع لالا عايشة الخضرة، حيث بدأ شعورك المرهف بما حولك يتلمس ظلم العالم، من خلال ضربات قضيب الرمان، النازلة على الرؤوس عشوائيا، بين تصايح الأصوات الصغيرة، واهتزاز الأجساد الطرية، خصوصا يوم الثلاثاء المرعب، الذي كانوا يقولون عنه: (الثلاثة بلا فلاتة)، فقد كان هذا اليوم موعد عرض المحفوظ من القرآن على الفقيه، وويل لمن يرتبك أو ينسى كلمة أو جملة أو تتشابه عليه الآيات، فالفلقة في انتظاره.
لكن إن نسيتَ فلن تنسى الذيل والتكملة في المنزل. إذ كان الوالد في انتظارك أنت وأخوك، في المنزل بعد العشاء، ليستمع إلى ما حفظتماه من آيات وسور قرآنية عن ظهر قلب، ثم يأمركما بإعادة الحفظ أمامه، حين يكون حفظكما مذبذبا. وكان التعب الشديد رابعكم، وهو ما كان ينهي الجلسة بنومكم جميعا في المكان، إلى أن ينتبه الوالد من غفوته فينهركما قائلا: (قوموا تنعسوا ألكلاب، لستم لا في العِير ولا في النَّفير). على أنه كان يوقظكما قبل الفجر، ويذهب بكما إلى جامع لالا عايشة الخضرة، وفي الطريق شبه المظلم، وصمت تخين يتملك المدينة، كان يركبك رعب يشيب الوليد، من غير أن تشيب. إذ كنت تتوجس من أن يعترض الغول طريقكم، فيأكل لحمكم وعظامكم في لقمة، ويشرب دماءكم في جغمة، مما ورثك كوابيس الخوف من الظلمة. وما كان يُهوِّن عليك رعبك لحظتها، سوى التلهي بتأمل النجوم المتلألئة في السماء بين شقوق السحاب، التي اقتبست صفاء نورها من ضوء القمر. وتجلسون بين حلقة من (الطلبة) الكبار والشباب، يرددون الأذكار وينكتون ويضحكون، ويرتشفون الشاي، إلى حين أذان الصبح، حيث يقوم الجميع للصلاة. أعرف دون أن تشتكي أيها البرعم المنغلق، أن عينيك في تلك المرحلة، كادتا أن تفقدا براءة الأطفال.
ومع ذلك، فما هذه الندب النفسية القاسية؟ لا تكن جاحدا. إن عقلك الصغير، لم يكن قد نما إلى مستوى إدراك طبيعة الحياة، أمُّ التوأمين العدوين التعاسة والانشراح. إذن لا تنكر يا ذاك الطفل الكامن في صندوق الذاكرة من غير أن يشيخ، أن ذلك الجو الضاغط هو ما مكنك، إلى جانب الاستماع إلى الحكايات العجيبة، من امتلاك الخيال المبتكر، واللغة السليمة، ومن اكتساب حس الحذر والكياسة في التعامل مع الآخرين، داخل البيت وخارجه، ومن الحلم بعالم بديل أجمل وأسعد. ومن ثم، قُبِلتَ اعتبارا لمستواك المعرفي، في القسم الثاني مباشرة، حين التحقت مع حصول الاستقلال، بالمدرسة الأهلية الابتدائية، رغم اعتراض والدك، بل وتقدمت لامتحان الشهادة الابتدائية في السنة الثالثة بدل الرابعة، فنجحت بتفوق، مما ملأ روحك تفاؤلا وتطلعا نحو جاذبية براقة لمستقبل مأمول، في مرحلة وطنية مختلفة عن سابقتها. وهناك سر ما كنت تعلمه ويعلمه الزمان، ذلك أنك رغم ما قيل عن الطفولة، من أنها تصنع الشخصية الناضجة سلوكيا، المتزنة نفسيا، شرط أن تكون سليمة، ومع ذلك كانت طريقك إلى النضج طبيعية، مع كل ما عانيته في طفولتك المضطربة، من خبرات متراوحة بين السواد والبياض.
ثم، هل نيست يا هذا الطفل الناضج قبل الأوان، أجواء رمضان المضمخة ببصمات الورع، والمترعة بالمرح والشيطنة؟. أكيد أنك لا تزال تذكر مساء رؤية الهلال، حيث كان الناس يتجمعون في ساحة المرس ترقبا لظهوره، وبمجرد ما تتم رؤيته تنطلق زغاريد النساء من فوق سطوح المنازل، وتصدح أصوات (النفار) في أعلى المآذن، معلنة حلول الشهر الكريم. ألا تذكر أنه كان يسمحل لك طيلة رمضان، أن تسرح وتمرح بعد الفطور مع أندادك، تبتكر مهارة خيالكم لعبا ترفيهية بسيطة، أو تستمتعون بلعب كانت معروفة يومها بين كل الأطفال؟ فهذه غميضة، وهذه حابة، وتلك حويطة، والأخرى احفيرة، وهذه كرينة، وهذا التريمبو، وذاك اصفار كحال، وهذا سبسبوت وكاسطرو و( Tres canastas de huevo ثلاث سلال من البيض)، وغيرها من ألعاب جيل لم يعرف التلفزيون ولا الحاسوب ولا الهاتف الذكي. أم نسيت اللعب بكرة الجوارب المحشوة بالتبن والأوراق والخرق، في السويقة، حين كانت بَعْدُ دائرة متربة، تستدير على جنباتها مصابيح تحيط قاعدتها كراس إسمنتية دائرية، ويطل عليها مسرح بيريس كالدوت بأضوائه وملصقات أفلامه؟. ألا تذكر أنك في تلك الأجواء الاستثنائية، كنت تشعر بخفة جسدك، إلى درجة إحساسك بإمكانية الطيران، والتحويم فوق أسطح المدينة، خصوصا حين كان يهل رمضان في فصل الربيع، حيث تختلط نسمات الزهور والياسمين الفواحة من كل جهة، بطيب رائحة الحريرة و(كويلش)، وبعزف (الغياط) يهلل وقت الشفع من أعلى سطح المئذنة، فيَشبَع أنفُك وتَشبَع أذنك وتَشبَع روحك، قبل أن تُشبع (المخمارة) بطنك في السحور، قبيل ضربة المدفع الأخيرة، وانطلاق (النفار) محذرا: اقطاع اقطاع اقطااااع… اقطاع اقطاع اقطاااااع… وهكذا ما كنت تعود إلى المنزل، إلا مع إعلان ضربات الطبال السريعة حلول وقت السحور، اقتناعا منك بالاعتقاد الجمعي السائد يومئذ، القائل بأن الجن والعفاريت والمردة والشياطين، يظلون مقيدين بالسلاسل الغليظة، طيلة شهر رمضان المبارك.
أما في أيام العيد !، يا سلام عليك أيها الطفل المدلل. كنت تنتظر بفارغ الصبر، أن تنتهي المرحومة أختك ربيعة، الماهرة في الخياطة، من خياطة بذلتك الجديدة. وكنت تنتظر بسرور طافح، دورك في دكان الحلاق المزدحم بالزبناء، لحلق شعر رأسك استعدادا للعيد. وكم كنت تنشط في الذهاب والإياب بالحلويات من المنزل إلى فران السويقة، الذي كان يظل يعمل قبيل العيد إلى آخر وقت من الليل، وخيشومك ينتعش باستنشاق روائح الحلويات المشكلة المغرية. أما يوم العيد فحدث ولا حرج، تكون أميرا مدللا حقا. يغمرك ابتهاج عارم بالثياب الجديدة، وبتبادل الزيارات مع الأهل، في (الشريعة وباب الواد)، لتحصيل ما تيسر من (البسيطات). والجميع يفرحون بك ويغدقون عليك ما يستطيعون من سنتيمات وحلويات وأكلات متنوعة. وأنت لا تسعك الدنيا من الفرح والابتهاج.
أتدري أيها الطفل الغريب، أنه رغم كون طفولتك لم تعرف لا يوما عالميا للطفل، ولا تصريحا عالميا لحقوق الطفل، ولا علم نفس الأطفال؛ ومع ذلك، فرغم سرعة مرورها مثل (هب الريح)، فهي تستمر جد محببة على علاتها، أحرى في ذكرياتها السارة. فياللألفة الهاربة مع الزمان.