الطفلة التي كنتها – ها أنت توقظين الحنين وتوخزين الذكريات : ذة. رجاء الوهراني

9 أبريل 2022

 

الطفلة التي كنتها
آه يا للا أمينة ،ها أنت توقظين الحنين وتوخزين الذكريات …
ذة. رجاء الوهراني

“الطفلة التي كنتها” سلسلة رمضانية تعدها الإعلامية أمينة بنونة .
ترصد السلسلة من خلال ضيوفها – كتابا وكاتبات أدباء وفاعلين في الحقل الثقافي – تجارب خاصة بمرحلة الطفولة والتي عادة ما تشكل بوادر توجهاتنا ومساراتنا المستقبلية .
**************
مساء الخير للا أمينة ،
حينما اتصلت بي واقترحت علي أن أشارك في سلسلة تعتزمين إطلاقها خلال هذا الشهرالفضيل ،شكرت صنيعك وأنت تفتحين لنا نافذة نلتقي من خلالها مع نساء ورجال مدينتي للحديث عن عوالم طفولتنا ، وما الذي بقي راسخا في الذاكرة من ذلك الزمن الجميل البعيد ،لنلامس زمن البدايات في
دروب الحياة في مدينتنا حيث كانت طفولتنا وجزء من شبابنا، بعد ذلك تفرقنا في دروب الأرض، وتركنا القصر الكبير هناك، وتركنا هدوئه الحالم ، وأهله الطيبين، لتتلقفنا عوالم أخرى.
حينما سألتني للا امينة عن طفولتي ، رجوتك منحي مهلة قصيرة، أنقب فيها داخل دهايز مهجورة في أقاصى ذاكرتي، لأعيد شرائط قديمة تعود الى سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي كي اختار مشاهد متفرقة بما يناسب ما طلب مني “الطفلة التي كنتها”
آه يا للاامينة ،ها أنت توقظين الحنين وتوخزين الذكريات ، لتتداعى صور أناس واماكن إلى الأذهان، وتعيدي إلي دفء حي للا عائشة الخضراء الذي لا يزال يعيش في الوجدان ،وكم لي فيه من الذكريات تستحق التوقف عندها وتأملها بما يصاحب ذلك من الحنين المعتق، وكأني اتأمل تفاصيله ، هناك لعبت وضحكت وتعثرت ما مرة وبكيت ، دفء احضان ساكنيه وسماحة وجوههم وحرصهم ان يكونوا مجرد اناس طيبين لا غير،لا زلت اتشمم عبقهم من عبق جدران البيوت العتيقة ،صديقاتي فاطمة خموح و زهرة الميراوي واسية الأحمدي و سكينة الصيباري، رجائي للا امينة إن مررت من هناك ضعي زهرة في كل ركن من الحي علها تلامس ارواحهم وتبلغها مني السلام.
عشت في منازل مختلفة، ألفتها جميعاً و ربما ألفتني، احتضنت ذكرياتٍ لي غالية، وهدرت بين جدرانها سنواتٌ من عمري. لكن يظل “منزل للاعائشة الخضراء ” المنزل الذي لا يدانيه أي منزل آخر، ويظل الحنين دائما له، ولأيامه الزاهرة ولا ينقطع، يظل الأقرب إلى قلبي لأنه يذكرني بطفولتي وأيام البراءة التي عشناها في بيتنا القديم، أستمد من ذكراه النقاء والصفاء الذي عشناه في طفولتنا، وحب أهله والحكايات التي كنا نسمعها كل ليلة لكي ننام، ونصحو على رائحة شاي أمي وحلوياتها الشهية ،الولية الصالحة للا عائشة اللانجرية ” التي اتخدت من احدى غرف المنزل مأوى لها ،كنا نسميه ” بيت السيدة ” ولم نشعر يوما بالخوف بالعيش بجوارها بل استأنسنا الطقس الاستثنائي كل خميس احتفاء بها باشعال الشموع في نوافذها وعلى ارضية الغرفة ، واشعال الند والعود تعطيرا للمكان ويزداد عدد الشموع وكيميات الند والعود في المناسبات الدينية كنا نحس بالشرف ان يستضيف بيتنا قبرها او اننا مجرد ضيوف عليها ،وروحها الطيبة تحمينا ، لم أكن أقترب من القبر في صغري إلا بمرافقة شخص آخر لما شحن به عقلي من قصص عن الارواح والاشباح ولكن تدريجيا زال الخوف الذي رافقني في طفولتي عندما اقنعني ابي “أنه لا خوف ولا أذى من الاموات بل الاحياء من يخيفون ويؤذون، وتوارثت العائلة في صرامة منع الرجال والذكور عموما المبيت في تلك الغرفة مهما كانت الاسباب والظروف احتراما لخصوصية روحها الانثوية .

الطفلة التي كنتها أحبت والدها حباً كبيرا منذ بدايات طفولتها لا تنفصل ذكرياتها عن وجوده معها، فلازمته وتعلقت به دون سواه، ولو استطاعت الالتصاق به والذوبان فيه لما توانت. كانت تطمح أن تبقى الى جانبه طوال الوقت لأن الحياة معه لها طعم الابوة و البنوة
أبي ، الحاج امحمد الوهراني ،قدوتي ومصدر أمني وحبي وحناني ، الناصح والسند في الشدائد والحاضر في اللحظات المهمة والفارقة في حياتي ، المتجلي في ذاتي ، العارف بنبضات قلبي، يعرف عني كل صغيرة وكبيرة، ولم يكن في حياته سواي وباقي ابناءه.
كنت اصاحب ابي الى دكانه الخاص ببيع الحلويات قبالة ضريح للا عائشة الخضراء، اجلس بجانبه وهو يمارس طقوسه اليومية في ممارسة تجارته ببرنامج يومي منضبط ،يشغل شريط القرآن الكريم للمقرئ الحاج عبدالرحمن بنموسى يتماهى مع المقرئ في خشوع مع القراءة المغربية ،تنتهي الحصة القرآنية اسمع تمتماته ودعاءه ،بعدها ينتقل ليختار شريطا لام كلثوم ومحمد عبد الوهاب ينفض الشريط مما علق به من غبار يضربه ضربات خفيفة على مصطبة الدكان ويشغله لتنبعث موسيقى وتغني ام كلثوم وتستثيره ليصل الى درجة الوجد والاشراق لا يقطعه الا صوت المؤذن للصلاة ، رغم قرب المسجد الملحق بضريح للا عائشة الخضراء يفضل الصلاة بالزاوية البدوية ،لا يعارض مرافقتي له للزاوية نقطع الممر الذي يفضي بنا الى بهو الزاوية الفسيح ،يدخل ابي مكان الصلاة واعمد الى نافورتها ،اشرب واسكب الماء على رجلي ،الماء المتدفق من النافورة يتسهويني وكأنه يغسلني ويغسل آثامي الصغيرة ، كانت المقبرة الملحقة تفتح ابوابها اتسلل اليها واتجول بين القبور اقرأ رخامات شواهدها بعضها مزركش ،بعض الاسماء العائلية للموتى مالوفة لدي لكثرة ترددها على لسان اسرتي ،اسال ابي عن بعض الاسماء يجيبني ويحاول ان يجد رابطا عائليا او مصاهرة بيننا وبين اصحاب القبور يترحم عليهم جميعا ونغادر المقبرة ،كان دكان ابي محجا للعديد من الناس يقتنون الحلويات او يطلبون كيميات منها لافراحهم واتراحهم ،كما كان بين الفينة والاخرى يقف احد المجاذيب بباب الدكان تغلب عليهم حالات الصمت ويطيلون النظر في اللاشيء ويدخل معهم في أحاديث ،وحده من كان يستطيع فك شفرات اقوالهم ،الشريف الجميلي ومحمد شليحة وغيرهم ،ينطقون بكلمات لا تشكل معنى ،يقول ابي “سرهم خفي لا يعلمه الا الله “

اترك رد

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

الاخبار العاجلة

نستخدم ملفات الكوكيز لنسهل عليك استخدام موقعنا الإلكتروني ونكيف المحتوى والإعلانات وفقا لمتطلباتك واحتياجاتك الخاصة، لتوفير ميزات وسائل التواصل الاجتماعية ولتحليل حركة الزيارات لدينا...لمعرفة المزيد

موافق

اكتشاف المزيد من أخبار قصراوة العالم

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading